لم تخبُ الدعوة لإعادةِ كتابة التاريخ، وهي - بكل ما تتضمنُه من إغراءات وما يعتورُها من إشكالات - مطلبٌ متعذر، لتداخل السياسي بالديني، والموضوعي بالمذهبي، وعدم خضوعه للاشتراطات «الحديثية» في الجرح والتعديل؛ ما يجعل مجرد التفكير فيه على مستوى الأمة ضربًا من الخيال.
- وبحكم انتمائنا للمدرسة «الدينية» في المعاهد العلمية فقد كاد التناقض يعصف بنا بين نظريات «القومويين والإسلامويين»؛ فالصوتُ لجماعة والمنطق لأخرى، والهوى هنا والعقل هناك، ويُطلب منا أن نقارن بين «عبد الحميد وأتاتورك»، وبين «البنا وعبد الناصر»، ونستمع للجاجٍ لا ينتهي، ونشارك فيه؛ بعلمٍ حينًا وحماسةٍ أحيانًا، دون أن نصل لناتجٍ يرضي المحاكمة والحكم.
- آمنا بألا جدوى من التعاتب كما لا مناص من التكاذب؛ ويبقى الأقدمون أممًا سلفت لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، ومن قصور النظر الاحترابُ حول التاريخ واستعادة تمثيله وأمثلته؛ فقد دُون بتواقيع عصبية وعنصرية وأعجمية.
- التأريخ «بالهمز» ذو شأن؛ فتسجيله - في زمنه - حمايةٌ له من العبث والافتئات والمصادرة والتغيير، وتجربةُ كتابة التاريخ الإسلامي «وتحديدًا الأموي على يد الموالي والمتعصبين» وارت الحقيقة، وأتاحت لأمثال «القمني» أن يكتب - في مقالةٍ سارت بها ركبان الشبكة المعلوماتية:
- (معاوية بن أبي سفيان وولده يزيد لم يمنعهما إسلامهما من قتال آل بيت الرسول وجز رأس الحسين، والحجاج بن يوسف الثقفي أعدم من العراقيين مئة وعشرين ألفاً واستباح نساء المسلمين، والعباسيون قتلوا خمسين ألفاً من أهل دمشق وجعلوا من المسجد الأموي إسطبلاً لخيولهم).
- ليس «القمنيُ» بدعًا في أحكامه؛ فإنما هو مرددٌ متردد، وهو - بذاته - لا يستحق التفاتة، لكن معاوية المُفترى عليه - رضي الله عنه - تشوه بحيث صار الدفاعُ عنه تهمةً «بالنصب» ومسؤوليةً لنفيها؛ إذ يكفي أنه أحد كتبة الوحي المطهر، وباني أكبر توسع «فتحي» امتد به الإسلام شرقًا وغربًا، ومنشئُ الدواوين، ومثبت الأمن، وسيد الساسة والحكماء، ولا تزال «شعرتُه» مثلاً للإدارة المتوازنة، لتنحصر مشكلته في أنه عربي، وكما كتب التأريخَ الفرسُ أمس فإنهم يوجهونه اليوم، ومن له ثارات - كما كسرى - فإنه يوظفها في الزمان والمكان كما يشاء.
- ليس الأمر متعلقًا بالشخوص، وإلا «فالحجاج» قائدٌ عسكري له دوره في تثبيت الأمن وعليه وزرُه في سفك الدماء المعصومة، وإذا تجاوزنا المؤرخين المذهبيين فإن المنصفين قد وعوا حقَه وسجلوا مآثره، ومن يقرؤه بلغة اليوم سيدرك أنه لا يستحقُ التشويه الذي طاله، وكنا نعجب من طالب علمٍ من بني أبينا في «عنيزة» مضى إلى رحمة ربه لم يكن يقبل في انتقاد الحجاج - رحمه الله - عدلاً ولا صرفاً، ثم صرنا نتأمل في تميزه بعدما شككنا في تحيزه.
- التأريخُ أمانةٌ ندر حافظوها، وسيأتي زمانٌ مختلف تُكتب فيه سيرةُ هذا العصر ورجالِه وقد تُغتال بأقلام شعوبية تكره العروبة والعرب؛ في حين يتناثر إرثُنا بجهل أو طمع أو إهمال ونحن نتفرج على المخطوط يحترق، والشفاهي يضيع، والصريح يصادر، والمُمَوهُ والمزور والوصولي يوثق.
- نحن التاريخُ وهو ذاتُنا المسكونةُ بالوهم والهم والخوف والحيف، وإنما نواجهها بمراكزَ بحثيةٍ مستقلة؛ تُعنى - ضمن اهتماماتها - برموزٍ دافعت عنا وآن أن نرد لها الدَين.
- الواحدُ مجموع.