الغيرة على نسائنا جزء متأصل في ثقافتنا، ويحض عليها بل ويأمر بها ديننا، إلا أن الغيرة الصحية هي تلك التي يصاحبها الرفق والعدل والاحترام. وهذه أيضاً صفات يجب أن تكون متأصلة في ثقافتنا، لأنها تتطلبها طبيعة العلاقة بين الرجل والمرأة ويأمر بها الدين. أما الحجر والعنف وسد منافذ الرزق الحلال فليست من الغيرة في شيء، بل هي أحرى أن تفسد العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة وأن تهمش دور المرأة في الحياة الأسرية والاجتماعية، وأن تحرمها حقوقها.
ولقد أبان لنا علماؤنا الأفاضل في العديد من المناسبات فضل الإسلام في بيان حقوق المرأة وحماية هذه الحقوق من الظلم والعبث. إلا أن ذلك - فيما يبدو- لم يكن عند قلة من الرجال كافياً للتخلص من أفكارهم ومفاهيمهم المتخلفة المتعلقة بصيانة حقوق المرأة وكرامتها، فقلبوا مفهوم القوامة إلى وصاية مطلقة، وجبروت وجحود لواجب الإنفاق، مع أنه من الواضح وضوح الشمس أن القوامة مرتبطة بما فضل الله (بعضهم على بعض) وبما أنفقوا... وهل يفضل الله بعضا على بعض بما عندهم من نزوع إلى الظلم والجحود، أم بما عندهم من الرجولة والقدرة على الإنفاق والرعاية؟ ولا يغير من الأمر شيئاً أن هؤلاء إنما يشكلون فئة قليلة من الناس لأنه إن ترك الحبل على الغارب لهذه الفئة القليلة، تحولت أفعالها إلى أنماط اجتماعية راسخة.
ولعلي أذكّر - في هذا المقام - بحلقة من حلقات برنامج (واجه الصحافة) الذي يقدمه الأستاذ داود الشريان في قناة (العربية) وأذيعت في شعبان من هذا العام وكانت تدور حول حقوق المرأة المطلقة. وربما لو لم يشارك في الحوار سيدتان فاضلتان - إحداهما محامية والأخرى ناشطة في حقوق المرأة - لما سمعنا بقدر كبير من الوضوح والتفصيل عن قضايا نظرتها المحاكم تتعلق بحالات من نكران أبسط الحقوق وأوجبها على الرجل إزاء مطلقته، مثل الإخطار بالطلاق أو المراجعة أو الإنفاق على الولد، وهي حالات ربما تكون فردية - كما أشار إلى ذلك الشيخ الفاضل المشارك في الحوار - إلا أن حرمان امرأة واحدة من نفقة مستحقة هو الظلم بعينه الذي يمكن أن يقض مضجع أي حاكم عادل، فكيف بقاض عليه أن يحكم بالعدل؟ وهناك حالات شبيهة بتلك التي سمعنا عنها في تلك الحلقة، مثل المرأة التي طلقها زوجها - وهي زوجته الثانية - وعندها منه بنت - ولكنه امتنع عن الإنفاق على ابنته فرفعت الأمر إلى المحكمة، وبعد مماطلات من الزوج استمرت ثلاث سنوات حكم لها القاضي بثلاثمائة ريال في الشهر مما دعاها إلى العزوف عن هذا المبلغ الزهيد الذي لا يكاد يكفي للصرف على (حفاظات) ابنتها - كما قالت.
مثل هذه الحالات وما في حكمها كالأرامل أو النساء غير المتزوجات اللواتي يعشن في كنف أسر لا عائل لها، ولكنهن قادرات على العمل، هن أولى بفتح الفرص لهن (أو بعبارة قرأتها ذات مرة للشيخ زين العابدين الركابي: فتح الذرائع) لكسب الرزق الحلال. ومن هذا الرزق الحلال التكسب بالعمل كمحاسبات بيع - أي كاشيرات - إن المرأة التي تسعى للتغلب على ضيق العيش بالعمل، امرأة ذات شخصية قوية جديرة بالإكبار والاحترام، ولولا اعتزازها بنفسها وحبها لمن ترعاه من أطفال صغار أو والدين كبيرين في السن أو رغبتها في حماية نفسها من الذل والهوان، لما أقدمت على اقتحام عقبة العمل المحاسبي. وهذا أمر - على أي حال - ينسجم مع واقع المرأة اليوم، حيث بدأ الوعي النسائي يتبلور في تأثيره الاجتماعي نتيجة لما حققته المرأة من تقدم في مجال التعليم والتأهيل المهني. فعلى سبيل المثال صار عدد الطالبات الجامعيات يساوي تقريباً عدد الطلاب الجامعيين وزاد عدد العاملات في مجال الطب والتمريض من (39) طبيبة و(335) ممرضة عام 1400هـ إلى (3724) طبيبة (تسعين ضعفاً) و(14109) ممرضات (أربعين ضعفاً) عام 1429هـ. (وقد أشرت إلى ذلك في مقال سابق (بالجزيرة) عدد 13769 وتاريخ 27/6/1431هـ).
أما الفتوى التي ذكرت بعض الصحف أنها صدرت من اللجنة الدائمة للإفتاء وكتب عنها الأستاذ محمد آل الشيخ في (الجزيرة) عدد (13914) في 25/11/1431هـ فهي جواب على ما ذكر في سؤال أحد المستفتين ولا يفهم منها أنها فتوى رسمية صادرة من هيئة كبار العلماء، ولكن ذلك لا يقلل من أهميتها. ذلك أنها أوضحت العلة التي استنتجتها من صياغة السؤال الذي نصه (كما ورد في جريدة الشرق الأوسط 25/11/1431هـ): (قامت الكثير من الشركات بتوظيف النساء بوظائف كاشيرات تحاسب الرجال والنساء باسم العوائل، تقابل في اليوم الواحد العشرات من الرجال وتحادثهم وتسلم وتتسلم منهم. وكذلك ستحتاج إلى التدريب والاجتماع والتعامل مع زملائها في العمل ورئيسها. ما حكم عمل المرأة في مثل هذه الأعمال وما حكم توظيف الشركات والمحلات للمرأة في هذه الأعمال). من الواضح أن عبارات (باسم العوائل - تقابل العشرات من الرجال - تحادثهم - تسلم وتتسلم منهم) توحي بجو من الفتنة والافتتان بعيداً عن بيئة العمل الحقيقية. وإلا فماذا نقول عن الوضع الراهن الذي نراه في كل المجمعات التجارية الكبرى والسوبر ماركات، حيث يتبضع النساء (برفقة رجال أو بدونهم) ويحاسبن الرجال الجالسين أمام آلات المحاسبة وقد تنتظر الواحدة في الصف وأمامها رجل وخلقها رجل. هل هذه بيئة فتنة وافتتان؟ وماذا نقول عن عمل النساء في المستشفيات وعلاج المريضات من قبل الرجال؟ وعن عمل الصيدلانيات في صيدلية المستشفى وتسلمهن الوصفات من الرجال وتسليمهم الأدوية؟ يقيناً يعرف علماؤنا الأفاضل هذا الوضع ويشعرون في داخل أنفسهم بما يشعرون به إزاء عمل (الكاشيرات) ولكنهم قد يتقبلونه (أو يتقبله البعض منهم) على مضض لأنه من باب الضرورة، وللضرورة أحكام. ويزيدهم اطمئنانا ما يرونه من الأخذ باحتياطات تقلل من أسباب الخوف من الفتنة مثل ما هو متبع في المرافق الصحية من عدم الكشف على المريضة من قبل الطبيب إلا بوجود محرم لها أو وجود ممرضة على الأقل. فأما من حيث الضرورة فهل هناك ضرورة أشد من سد الرمق وتأمين لقمة العيش؟ وأما من حيث الاحتياطات فإن المؤسسات التي وظفت هؤلاء (الكاشيرات) ليست عاجزة عن وضع إجراءات تنظيمية ورقابية تبث الراحة والطمأنينة في النفوس.
ذكرت اللجنة الموقرة في قرارها أنه معلوم أن من يتق الله - جلَّ وعلا - بترك ما حرم الله عليه وفعل ما أوجب عليه، فإن الله - عز وجل - ييسِّر أموره كما قال تعالى: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)؛ لذلك فإن إحسان الظن بالمرأة المسلمة يدفعنا للقول بإن ممارسة هذا العمل الشريف هرباً من هوان الاستجداء والاستعطاف ومكابدة الفقر والحرمان وما يجره هذا وذاك من عواقب - هو التقوى بعينها -؛ لأن فيه درء مفسدة كبرى بمفسدة صغرى، إن كان في عمل الكاشيرة فعلا مفسدة ما، وهو المخرج الذي يهيئ لها فسحة الأمل في عيش كريم، عندما تكون أبواب الوظائف الأخرى موصدة في وجهها؛ لأن المئات غيرها يتزاحمن عليها.
والله الهادي إلى الصواب.