تعج إدارات كثيرة في الدولة بعدد من المستشارين، وهنا لا أقصد فقط من يحملون هذا المسمى، ولكن أقصد كل من يحيط بقيادة رسمية ممن يقدمون له العون والمساعدة والمتابعات المختلفة.. صغرت وظيفة القيادة أم كبرت فهي سواء.. ويستثنى من .. إدارية لوجستيه في خدمة تلك الشخصية من
سكرتارية وغيرها.. كما أن قيادة في مجال معين تقوم بدور استشاري لقيادة أعلى منها، وهكذا حتى تصبح جميع الأجهزة في الدولة والمجتمع تعمل في دور استشاري للقرار السياسي الأعلى..
ويتفق الجميع على أن نجاح أي قيادة سياسية أو عسكرية أو أمنية أو اقتصادية أو إعلامية أو اجتماعية أو تعليمية هي جزء من نجاح الدور الاستشاري للمحيطين به بهذه القيادات مجال عملها.. فهم السياج الواقي لهم من تقلبات القرار وتصدعات التفكير.. هذا الدور يعد حيويا في بناء وتشكيل القرار العام، حيث تضع الأدوار الاستشارية إمكاناتها التخصصية والإستراتيجية في خدمة متخذي القرار..
وقد يقال «قل لي عن قراراتك أقل لك عن مستشاريك»، فهم وراء حراك اتخاذ القرار من بدايته حتى تبعاته، ومن التفكير فيه حتى بنائه، مرورا بتجارب وتاريخ وجغرافية المكان والوقت، مراعين خصوصية المرحلة والإنسان..
وقدر درجت كثير من الشخصيات السياسية في العالم سواء في الولايات المتحدة أو أوروبا أو غيرها من الدول أن تكون محاطة بعدد من المستشارين حسب طبيعة العمل، ولكن بالضرورة يواجد مستشارون في تخصصات الإعلام والسياسة والاقتصاد والقانون.. وتعتمد هذه الشخصيات على هذه النوعية المميزة المستشارين في بناء الأجندة العامة، وبلورة المبادرات الإستراتيجية العامة في مجال عمل القيادة السياسية. وهناك أعمال ربما توصف بالروتينية، ولكنها لا تستنزف وقت الدور الاستشاري المهم في تناول القضايا الكبرى والمبادرات الصعبة.. وقد يختلف المستشار مع القيادة السياسية في بعض الأمور، حيث يتوجب عليه إعلان رأيه بوضوح، وهذا عمل مطلوب حتى تتبلور الصورة كاملة أمام القيادة السياسية التي يعمل معها..
ونعود إلى بلادنا ومجتمعنا، فكثير من دوائرنا - كما ذكرنا - تعج بالمستشارين في مختلف التخصصات، وهذا اتجاه جيد من قبل تلك الإدارات والمؤسسات، حيث توجد خبرات متميزة أكثرها في الجامعات السعودية وغيرها من الخبرات الأخرى تحاول الاستفادة منها في بلورة القرار العام بمختلف مجالاته.. ولكن هناك في المقابل قرارات ناقصة أو قرارات غير مدروسة أو قرارات خاطئة تبدو أحيانا أنها (1) لم تمر من خلال دوائر استشارية، أو (2) أن ما عبر عنه المستشارون لم يلق الأذن التي تسمع، أو أن (3) المستشارون لم يقوموا بدورهم المفترض عليهم.. وفي الحالتين الأولى والثانية تكون الجهة هي المسئولية عن رداءة القرار وعدم صوابيته نتيجة عدم دراسة الموضوع بشكل علمي وتفصيلي.. أما الثالثة فهي مشكلة خطيرة تهدد نجاح الدور الاستشاري في دوائرنا التنفيذية..
ومشكلة تقاعس المستشارين عن أداء دورهم كيفما يتوجب هو مرحلة خطيرة تهدد سلامة القرار العام في بلادنا.. وما هو واضح من متابعة بعض الأدوار الاستشارية في بعض الجهات التنفيذية أن المستشار وهو مؤتمن على الإخلاص في الرأي يحاول أن يتملص من الخيار الأصعب أمام الجهة التنفيذية التي يقدم استشارته لها، ويحاول البعض أن يكون مجاملا لصاحب القرار في أكثر الأحوال، فهو يعرف ما يريده ويقدم له ثوبا مفصلا على الطريقة التي تريدها القيادة التنفيذية.. وهذه مشكلة كبرى تعاني منها أجهزتنا، فوجود الشخصيات الاستشارية مرهون يما تقدمه من فكر يصب في إطار المطلوب، وليس في إطار ما ينبغي أن يكون عليه العمل..
ونفس الوضع يحدث عندما تكون القيادة التنفيذية لاعبة دوراً استشارياً لمن هو أعلى منها في المقام التنفيذي.. حيث تسعى الشخصيات التنفيذية الى مجاراة الشخصية القيادية وعدم توضيح ما ينبغي أن تعرفه عن ملابسات القرار العام، وتأتي فقط لتبارك ما يتم التفكير فيه دون دراسة، أو دون جرأة مواجهة الموقف وتوضيحه بالشكل العلمي المطلوب.. ودون شرح الأبعاد الإستراتيجية لمثل هذه القرارات في الشأن العام وفي عموم المجتمع وتداعياته الدولية في بعض الأحيان.
ولربما من الأمور التي يستطيع أي مواطن أو فرد أو مراقب إدراكها هو أن الشأن الإعلامي أو الدور الإعلامي يأتي لاحقا دائما وعبر تجارب كثيرة لا حصر لها.. فبعد اتخاذ القرار تبدأ أجهزة الإعلام في حراكها المهني المتأخر.. علما أن القرارات السياسية والاقتصادية والعسكرية في الدول المتقدمة تبدأ أولا بالإعلام للتمهيد وبناء الرأي العام، ثم تأتي القرارات بعد أن وجدت طريقها في المجتمع عبر وسائل الإعلام.. وهنا يخفق الدور الاستشاري الإعلامي في القيام بدوره الإستراتيجي في معركة القرار، مثلا. ولربما هذا ما جعل -من خلال موقف تاريخي قديم- الدور الاستشاري يتضارب مع الدور السياسي في حالة تاريخية.. مثلما حدث بين أحد المستشارين مع رئيس أمريكي قبيل إعلان الحرب الإسبانية.. حيث كان الرئيس مع إعلان الحرب مباشرة، بينما كان المستشار يرى أن الحرب يجب أن تباع أولا للرأي العام، ثم يتم الإعلان عنها بعدما تكون القيادة السياسية قد كسبت تأييدا شعبيا لها..
ولدينا مواقف عديدة لا أستطيع توضيحها هنا، جميعها تشير إلى أن القرار يصدر أحيانا مستعجلا أو كردة فعل دون دراسة تبعاته على المؤسسات المجتمعية، وبعد صدوره تتضح الصورة الكاملة لهذه التبعات. والمشكلة أن لا أحد يجني من أي تبعات إيجابية من مثل هذا القرار، والعكس يحدث حيث تشكل مثل هذه القرارات إساءة أو تشويشا على صورة مؤسسة أو أكثر من مؤسسات المجتمع..
(*) المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام