الموظف الذي يكلفه رئيسه بإعداد التقارير، ومتابعة إجراءات العمل، والتأكد من تنفيذ الواجبات، وتطبيق اللوائح، وهو قرير النفس يستقبل في مكتبه ضيوفه، ويتابع آخر نشرات الأخبار، وربما برنامجه المفضل، ونتائج فريقه الرياضي، ويضع ضميره على كف هذا الموظف الذي يهدهده إراحة له، وحملا عنه لمسؤوليته،... فإذا ما وجد نفسه هذا الموظف مضطرا لبعض ساعات لمراجعة طبيبه، أو طبيب زوجه، أو أمه، أو ولده، أو فاجأته حاجة ملحة في بعض شؤونه الطارئة، وجد رئيسه أول من يحاكمه، وآخر من يقف بجانبه..
فيتلمظ طعما يسري في كيانه كله...
لا يكاد يجعله قادرا على رشف ريقه..
فإذا به المر...
الأب الذي يبذل نور عينيه ليرى ابنه الطريق، ويسفك دم قلبه لينبض في صدر هذا الابن، وينام في العراء ليغطيه بردا، ويشد على بطنه جوعا ليلقمه زاده، أو يسقيه شربته..فإذا ما كبر ابنه واعتلى المناصب، وفتحت له الأبواب، أغلق باب عطفه دون هذا الأب، وحرمه وهو المكتنز، وجافاه وهو المحب..
فيتلمظ طعما يسري في كيانه كله..
لا يجعله قادرا على نطق حرفه..
فإذا به المر...
صاحب الحق الذي يتقدم بأدلته للحَكم، ويذهب ويعود، ويتقلب في فراشه من وخز الظلم، متأملا في العدل، وتمر به الأيام، فالشهور, فالسنون، وحقه نائم تحت جفون الحَكم، إذ يذهب به الخصم، ويعود به في ضفته, وضحكاتهما تجلجل في الأروقة، بينما هو صاحب الحق، يقف خالي اليدين من أدلته وحقه..
فيتلمظ طعما يسري في كيانه كله...
لا يجعله قادرا على النوم على جنب، ولا الوقوف على قدم..
فإذا به المر..
المعلم الذي تكلُّ عيناه في التحصيل، والتصحيح، والإعداد، والتخطيط، حتى إذا ما جاء إليه طلابه، بذل لهم ما استطاع، وعلمهم ما عرف للإخلاص معنى، وتكبد في سبيلهم المشقة، والتصبر، حتى يبلغ به العطاء، أن تتراخى أوتار صوته إعادة ومتابعة، وتوهن قدماه وقوفا ومشيا، فلا يكاد ينتهي به المطاف، إلا عند جداول جافة، ونفوس جاحدة، وذاكرة في رؤوسهم جاحدة..
فيتلمظ طعما يسري في كيانه كله..
لا يجعله قادرا على النسيان، ولا مستوعبا للنكران..
فإذا به المر..
الجار الذي لا ينام ليله من صخب جيرانه، ولا يرتاح نهاره من إزعاجهم وإقلاقهم، ويتحمل إمدادهم بالماء حين حاجتهم، وتطاولهم على تيار بيته الكهربائي حين تعميرهم، وسطوهم على مساحات مداخل بيته لعرباتهم، وسقوط فروع أشجارهم على جدار بيته، حتى إذا ما مات عنده أحد، أو رفعت فوق أسواره أنوار فرحه بأحد من أسرته، وجدهم ينزوون في تلصص خلف نوافذهم، أو أبوابهم لا يُقرئونه السلام، ولا يشاركونه الأحزان..
فيتلمظ طعما يسري في كيانه كله..
لا يكاد يجعل لفكره لحظة راحة، ولا لقناعته فرصة استقرار..
فإذا به المرار..
و...و......و
نماذج المستطعمين المرار لا تحصى، ودولاب يلف بهم في عرصات الحياة.. فهم إما أن يفقدوا الثقة في الناس، أو في أنفسهم..
فالمرارة قادرة على تغيير لون الدماء في العروق ومن ثم في تغيير الإنسان ذاته..
أما الناجون...
الناجون من ذلك.. فلعهم يقولون لنا كيف السبيل للنجاة..؟