قال الله تبارك وتعالى في محكم التنزيل: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.
والحديث هاهنا سيكون حول بعض المنافع التي تشهد في الحج، والتي وردت مجملة في قوله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ}.
قال الشيخ العلامة عبدالرحمن السعدي - رحمه الله - في الآية السابقة: «أي لينالوا ببيت الله منافع دينية من العبادات الفاضلة، والعبادات التي لا تكون إلا فيه، ومنافع دنيوية من التكسب، وحصول الأرباح الدنيوية، وهذا أمر مشاهد كلٌّ يعرفه» ا.هـ.
وإليكم طرفاً من تلك المنافع التي تنال بالحج:
أولاً: تحقيق العبودية والتوحيد لله تبارك وتعالى، فكمال المخلوق في تحقيق العبودية لربه، وكل ما ازداد العبد تحقيقاً لها ازداد كماله وعلت درجته، وفي الحج يتجلى هذا المعنى غاية التجلي؛ ففي الحج تذلل لله، وخضوع وانكسار بين يديه؛ فالحاج يخرج من ملاذ الدنيا مهاجراً إلى ربه، تاركاً ماله وأهله ووطنه، متجرداً من ثيابه، لابساً إحرامه، حاسراً عن رأسه، متواضعاً لربه، تاركاً الطيب والنساء، متنقلاً بين المشاعر بقلب خاشع، وعين دامعة، ولسان ذاكر يرجو رحمة ربه، ويخشى عذابه.
ثم إن شعار الحاج منذ إحرامه إلى حين رمي جمرة العقبة والحلق لبيك الله لبيك ، لبيك لا شريك لك، ومعنى ذلك: أنني خاضعٌ لك، منقادٌ لأمرك، مستعد لما حملتني من الأمانات؛ طاعة لك، واستسلاماً دونما إكراه، أو تردد.
وهذه التلبية ترهف شعور الحاج، وتوحي إليه بأنه منذ فارق أهله مقبلٌ على ربه، متجردٌ عن عاداته ونعيمه، منسلخ من مفاخره ومزاياه.
ولهذا التواضع والتذلل أعظم المنزلة عند الله عز وجل إذ هو كمال العبد، وجماله، وهو مقصود العبودية الأعظم، وبسببه تمحى عن العبد آثارُ الذنوب، وظلمتها؛ فيدخل في حياة جديدة ملؤها الخير، وحشوها السعادة.
وإذا غلبت هذه الحال على الحجاج فملأت عبودية الله قلوبهم، وكانت هي المحرك لهم فيما يأتون، وما يذرون صنعوا للإنسانية الأعاجيب، وحرروها من الظلم، والشقاء، والبهيمية.
ثانياً: التعود على اغتنام الأوقات؛ فالوقت رأس مال الإنسان، والوقت من أَجَلِّ ما ينبغي أن يصان عن الإضاعة والإهمال.
وفي الحج يقوم الحاج بأعمال عظيمة، وفي أماكن مختلفة متباعدة مزدحمة، وفي أيام محددة، قد لا تتجاوز أربعة أيام ، وفي هذا دليل على أن في الإنسان طاقةً هائلةً مخزونة لو استثارها لآتت أكلها ضعفين أو أكثر، وهذا درس عظيم يبعث المسلم إلى أن يعتاد اغتنام الأوقات، وأن يحرص على أن لا يضيع منها شيئاً في غير فائدة .
ثالثاً: ارتباط المسلمين بقبلتهم التي يولون وجوههم شطرها في صلواتهم المفروضة خمس مرات في اليوم؛ وفي هذا الارتباط سر بديع يصرف وجوههم عن التوجه إلى غربٍ كافر، أو شرقٍ ملحد؛ فتبقى لهم عزتهم، وكرامتهم.
رابعاً: أن الحج فرصة عظيمة للإقبال على الله بشتى القربات: حيث يجتمع في الحج من العبادات ما لا يجتمع في غيره؛ فيشارك الحج غيره من الأوقات بالصلوات وغيرها من العبادات التي تفعل بالحج وغير الحج، وينفرد بالوقوف بعرفة، والمبيت بالمزدلفة، ورمي الجمار، وإراقة الدماء، وغير ذلك من أعمال الحج .
خامساً: الحج وسيلة عظمى لحط السيئات ورفعة الدرجات؛ فالحج يهدم ما كان قبله، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص رضي الله عنه:»أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله» رواه مسلم.
والحج أفضل الأعمال بعد الإيمان والجهاد؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - أي الأعمال أفضل؟ قال: «إيمان بالله ورسوله»، قيل: ثم ماذا؟ قال: «جهاد في سبيل الله»، قيل: ثم ماذا؟، قال: «حج مبرور» رواه البخاري.
والحج أفضل الجهاد؛ فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله: نرى الجهاد أفضل الأعمال، أفلا نجاهد؟»، قال: «لا، لكن أفضل الجهاد حج مبرور» رواه البخاري.
والحج المبرور جزاؤه الجنة، قال عليه الصلاة والسلام: «العمرة إلى العمرة كفارة لما بينهما، والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة» رواه مسلم.
والحاج يعود من ذنوبه كيوم ولدته أمه إذا كان حجه مبروراً، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من حج هذا البيت فلم يرفث، ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه» رواه البخاري ومسلم.
سادساً: هياج الذكريات الجميلة، ففي الحج تهيج الذكريات الجميلة: وهذا سر بديع من أسرار الحج؛ العزيزة على كل قلب مسلم، وما أكثر تلك الذكريات، وما أجمل ترددها على الذهن؛ فالحاج على سبيل المثال يتذكر أبانا إبراهيم الخليل عليه السلام فيتذكر توحيده لربه، ومُهاجرَه في سبيله، وكمال عبوديته، وتقديمه محابَّ ربِّه على محابِّ نفسه، ويتذكر ما جرى له من الابتلاءات العظيمة، وما حصل له من الكرامات، والمقامات العالية، ويتذكر أذانه في الحج، ودعاءه لمكة المكرمة، وبركات تلك الدعوات التي ترى آثارها إلى يومنا الحاضر.
ويتذكر الحاج ما كان من أمنا هاجر عليها السلام، فيتذكر سعيها بين الصفا والمروة؛ بحثاً عن ماء تشربه؛ لتدر باللبن على وليدها أبينا إسماعيل ذلك السعي الذي أصبح سنة ماضية، وركناً من أركان الحج، ويتذكر أبانا إسماعيل عليه السلام فيمر بخاطره مشاركة إسماعيل لأبيه إبراهيم في بناء الكعبة، ويتذكر ما كان من بر إسماعيل بأبيه؛ حيث أطاعه لما أخبره بأن الله يأمره بذبحه، فما كان من إسماعيل إلا أن قال: {افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ}.
ويتذكر الحاج أن مكة هي موطن النبي - صلى الله عليه وسلم - ففيها ولد وشب عن الطوق، وفيها تنزل عليه الوحي، ومنها شعَّ نور الإسلام الذي بدد دياجير الظلمات، ويتذكر من سار على تلك البطاح المباركة من أنبياء الله ورسله، وعباده الصالحين؛ فيشعر بأنه امتداد لتلك السلسلة المباركة، وذلك الركب الميمون، ويتذكر الصحابة رضي الله عنهم وما لاقوه من البلاء في سبيل نشر هذا الدين ، ويتذكر أن هذا البيت أول بيت وضع للناس وأنه مبارك وهدى للعالمين.
أيها الحاج الكريم أسأل الله أن يجعل حجك مبروراً، وسعيك مشكوراً، وذنبك مغفوراً، وأن يعيد علينا وعليك وعلى أمة الإسلام من بركات الحج ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
* عضو هيئة التدريس بجامعة القصيم كلية الشريعة وأصول الدين قسم العقيدة-المشرف العام على موقع دعوة الإسلام