يذكر أحد الذين تورطوا في الانضمام إلى الجماعة السلفية المحتسبة في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، تلك الجماعة التي تورّط جناح منها في احتلال الحرم المكّي أواخر 1979م، أنه كان مراهقًا ويبحث عن قدوة له، ولأنه كان فقيرًا ويكاد أن يكون معدمًا، رأى بعض زملائه أن يعمل بائعًا جوّالا حول الحرم، فاشترى بضعة ساعات من محل الجملة، كي يبيعها بمكسب ضئيل، ولسوء حظه كانت تلك الساعات من نوع «أم صليب» القديمة، ووشى به زميل إلى قادته، من أنه يبيع ساعات تحمل شكل الصليب، فاقترح أحدهم أن يعيدها إلى البائع كي يسترد نقوده التي جمعها خلال عام، بينما أكثرهم تشددًا أشار عليه بأن يكسّرها حتى لا يساعد على إعادة بيعها لآخرين غيره، ويعوّضه الله خيرًا، فلم يملك «الغلبان» إلا أن أتلفها، وعاد إلى دائرة الفقر والعوز من جديد، بينما اقتحم هؤلاء الحرم بأسلحتهم وروعوا الآمنين والمصلّين!
وبعد أكثر من ثلاثين عامًا بالتمام والكمال، التقيت بأصدقاء قدماء، أحدهم كان من عاشقي فريق برشلونة الأسباني، ويرتدي قميص الفريق المعروف، فحدّق به صديق آخر وهو يتفحّص شعار برشلونة، فابتسم بطمأنينة وهو يباركه: «شقّيت الصليب؟» ويضيف: «كفو، جزاك الله خيرًا»، مشيرًا إلى شعار فريق برشلونة، وقد أكّد أن إدارة الفريق ومسوقو قمصانه في العالم، يعرفون أن الكميات التي ترد إلى الشرق الأوسط ينزع منها جزءًا من الشعار! ورأى ثالث: المفروض أننا نفرض عليهم قمصان خاصة بالشرق الأوسط تكون خالية من الشعار المقلق!
كأني بهؤلاء تصل بهم حالة الوسوسة إلى التشكيك بإحدى العمليات الحسابية، وهي علامة الجمع، فهي تشبه علامة الصليب، وعلينا أن نلغي من المقررات هذه العملية الزائدة، ويمكن أن نكتفي بالعمليات الثلاث الباقية، أو نقترح شكلا جديدا لعملية الجمع بدلا من هذه العلامة المشكوك فيها!
الغريب أن هؤلاء وبعد دقائق فقط، تحدّثوا عن «البزنس» والبطالة، واتفقوا أن من المستحيل أن تتاجر دون أن «تسلّك أمورك!»، ولا يمكن أن يعمل ابنك في وظيفة حتى لو كان مؤهلاً، إلا عبر «واسطة» أو دفع مبلغ «أتعاب» لمن يلحقه بالعمل، وهذه المصطلحات من قبيل «سلّك أمورك» و»أتعاب» هي بعض المسمَّيات المتنوِّعة للرشوة، حيث بدأ بعضهم «يفتي» ويبرر لهذا النوع من الفساد، ويتقوّل على الشيخ فلان، بأنه قال إذا كان عملك لا يمكن أن يتمّ، وتوظيفك لن يتحقق إلا بدفع مبلغ عمولة للشخص الوسيط، دون أن تأخذ فرصة أحد، ولا تضرّ بالآخرين فهو أمر جائز، طالما أنك مضطر لذلك!
تخيّلوا كم نحن مظهريون، نتوقّف طويلا أمام مظهر وشكل، لكننا نفعل ما هو مدّمر للمجتمع، فقبل ثلاثين عامًا كان على هذا الفتى الصغير أن يدّمر تجارته ومصدر رزقه، رغم أن هذه البضاعة مصرّح لها رسميًا بالاستيراد والبيع في البلاد، وبعد ثلاثين عامًا من هذه الحادثة، لم يزل المجتمع يتوقف عند المظاهر والقشور، ويجادل حولها، بينما يغض النظر عما يدمّر عمقه وينخر أساساته.
هذه الحالات الصغيرة هي مجرّد أمثلة عابرة لنماذج كثيرة، قد نقابلها في اليوم عشرات المرّات، حاول أن تتمعّن - عزيزي القارئ - فيما حولك، لتكتشف كم نحن مظهريون، نعنى بالشكل والسطح ونتباهى بالتشدّد في عالم يؤمن بالعمق ويكرّس التسامح.