لاحظ بعض المريدين تعلقي بكتاب «الأغاني» وإشادتي به والتوجيه إلى قراءته، مع ما له من سمعة سيئة، واحتوائه على منكر من القول وزورا، ومن المريدين شباب يفعمهم الطهر وتلفهم البراءة،
ومن ثم استحوذت عليهم الحدة والحدية، وواحدية الخيار، دون النظر في فقه الواقع والمباح غير الممكن، وقد يظنون بي الظنون، لأن المتشبث بأهداب السلفية والمحب للخيرين وإن لم يكن منهم لا بد أن يكون صواماً قواماً معرضا عن الجاهلين جادا في السر والعلن لا يروح عن نفسه، ولا يسترسل مع متع الحياة الدنيا وأن تكون نظرته لما سوى العبادة المتبتلة لهواً ولعباً، وما كنت برِما من هذا الصنف ولا ضائقاً بهم صدري، وإن لقيت من صحبتهم نصيباً، فهم من براءتهم وفطرهم السليمة يجتازون مفازات مسبعة وحاجتهم إلى من يرود لهم ويحفظ ساقتهم، وما لم يدرأ عنهم المجربون سهام المتربصين فإنهم سيكونون غنيمة باردة لمن يستدرجهم من حيث لا يعلمون، ولقد شهدت علماء ومفكرين يفرون من هذا الصنف فرارهم من الأسد، ولا سيما إذا أمطروهم بأسئلة محرجة ظناً منهم أنها أسئلة مفحمة ومسبقة الصنع واستدراجية، ومتى لم نستوعب أبناءنا في مرحلة المراهقة والطيش وعلى مفترق الطرق تخطفهم دعاة السوء وبخاصة أن الأمة العربية والإسلامية تمر بمرحلة عصيبة ويقيمها أعداؤها بأنها تفرخ الإرهاب، وما كان لها أن تذعن لهذا الاتهام، ولا أن تسمح باستشراء التطرف بين أوساط الشباب، وما من عالم أو مفكر فرض على نفسه الحضور في بعض المحافل إلا ويلحق به من المريدين من يود اقتناصه لمراده، فالشباب المتحمس كالجمهور الذي يود من ممثله الخروج على النص، ولقد تغري الهتافات الممثل فيستدبر النص ويغرق في المفاجآت والتغريد خارج السرب، وقد يوغل في التهريج لذاته دون هدف، والعلماء الورعون يعدون اللحاق بهم والتكدس من حولهم من بوادر الفتن ولهذا يصرفون طلابهم عن اللحاق بهم في الأسواق، والعالم والمفكر حين يستجيبان لاستدراج لا يختلفان عن الممثلين الخارجين على النص، فهما تحت وابل الهتافات وسحر الأضواء ينسيان نفسيهما وحدود ما تقتضيه مصلحة الأمة وما يتطلبه راهنها، حتى إذا بدت سوآتهما طفقا يخصفان عليهما من التراجعات وتناسي حصائد الألسن وما حبرت أقلامها من تجاوزات ما كان لها أن تكون في ظل ظروف عصيبة يمر بها علمنا الثالث المنكوب بجهل أبنائه وتسلط أعدائه.
تلكم خواطر جَرَّ إليها الحديث عن كتاب موسوعي تفتقت عنه موهبة أدبية نادرة من رجل جمع الأدب وأسلوب العرض الجميل من أطرافها.
وكتاب «الأغاني» لأبي الفرج الأصبهاني ت 356-976م» من كتب الأدب التي لا يعد أديباً من لم يقرؤه، وكل الذين أرخوا للأدب العربي أو درسوا شعراءه منه يصدرون وإليه يعودون، وجاذبية الكتاب في أسلوب العرض وطريقة التناول، وما كنت ألمُ به إلا حين أمل من القراءة الجادة لأن ما يضيفه من متعة ومعرفة وبراعة في (العنعنة) و (الأنأنة) تنسي الإنسان ما يعانيه من مغالبة الأفكار ومعاضلة الفلسفات، وقارئ مثلي لا ينفك من القراءة الجادة ثم لا يحتمل تبعاتها بهذه السن المتقدمة لا بد أن تكون إلى جانبه كتب خفيفة الظل غزيرة المادة، ولقد خفف من أعباء الكتاب تلك الروح المرحة وخفة الظل والكتابة المستعذبة، فالأصبهاني مأخود بالرواية، إذ لا يعنيه أن يكون الرواة المتناقلون للأخبار بالعشرات، حتى ولو كان المرويّ سطراً أو بعض سطر، وقد يأتي بالرواية من طرق أخرى، وكأنه يريد تعزيز رؤيته.
وأغلب الظن أنه يلفق هذه الأسانيد وقد ينشئها إنشاء دون أن يكون لها أصل في الواقع، ولقد اعتمد عليه مؤرخو الأدب، وبخاصة «شوقي ضيف» في تاريخه بل أكاد أجزم بأنه استفرغ الأغاني، وبخاصة حين كتب عن الغناء والمغنين في مكة والمدينة، وتلك رؤية بالغ فيها، وأخذها مأخذ الجد، وقد انبرى له من نقض غزله من بعد قوة أنكاث وليس مهما أن يكون فيما كتب على بينة من أمره أم لم يكن، فقد قضي الأمر الذي فيه يختف المؤرخون للأدب، ولسنا بصدد توثيق ما جاء في الأغاني أو تكذيبه تمهيداً لإسقاطه، نحن نقطع بأن الكتاب من أكذب الكتب، ولكنه من أمتعها وأنفعها وعلى المتمتع أن يحسن الجني على حد:-
ولقد جنيتك أكمأ وعساقلاً
ولقد نهيتُك عن بنات الأوبرة
وإلماماتي المتلاحقة والمتقاربة في كتاب «الأغاني» تركت في نفسي انطباعاً حسناً عن كتب التراث عامة، وحين سئل المرحوم «غازي القصيبي» عن أحب كتب التراث إلى نفسه بادر إلى إحضار العقد الفريد لابن عبد ربه وما كان ليفوق الأغاني في الجاذبية والشيوع، ولقد كنت أود لو أن المتعقبين لهذه الأمهات التمسوا شخصيات المؤلفين من طرائفهم ومن لحن القول عنده، ذلك أن للأصفهاني في نكهة خاصة لا يشاركه فيها أحد، وإن تشابهت المناهج والأساليب، فهو يكتب عن موهبة ومعرفة، ومؤلفاته الأخرى لم تكن بمستوى الأغاني، لأنها كتب معرفة فقط، ومن الجنايات تعمد اختصاره أو تهذيبه، أو تجريده من الأسانيد لقد قرأت (الأغاني، موجزاً عند (الفيروز آبادي) وعند (طه حسين) وآخرين. فأحسست بثقل العمل وغثائيته، وفقد الكتاب لروحه المرحة وأسلوبه الجذاب، ولو أن المتكلفين ضبطوا النصوص وشكلوها وشرحوا ما انغلق منها لكان خيراً لهم، فطبعات (الأغاني) المتكررة وسرقة الطبعات المحققة والتصوير والتشويه لم تكن جميعها بالمستوى المطلوب، والمحققون لم يفوا بمتطلبات التحقيق العلمي الدقيق الذي نراه يما سوى الأغاني. ولربما يكون مرد ذلك تحرج العلماء الجادين من إسفاف المؤلف وفحشه، أو أن طول الكتاب حال دون التوفر على متطلبات التحقيق العلمي الدقيق الذي نجده في كثير من كتب التراث التي لم تبلغ قد (الأصفهاني) ولا نصيفه، ولعل طبعة (دار الكتب) هي الأوفى والأدق، والمشكل أن المتوفر في الأسواق مصورات منها، وليست طبعات، والناشرون اللبنانيون من أجرأ الناشرين على السرقات، ولهذا يتأذى المحققون المتميزن في تحقيقهم من عمليات السطو غير المشروع وحماية الحقوق لا تجد من يصونها، وإن وجد قانون يحدد العقوبات فإنه لا يوجد سلطة تنفذ القانون، ولقد يكون من فضول القول أن نتحدث عن طريقة (الأصفهاني) الفريدة في التأليف فهو قد اختار مائة صوت غنائي لعدد من الشعراء والشواعر وكل شاعر يسجل له صوتاً يتقصى أخباره بطريقة هي الأخرى ممتعة وفريدة، وكل مؤلف ينتاب الأغاني للتزود فيه يقتل ما فيه من روح المرح وذكاء العرض وبراعة التناول ولو تعقبنا ما فيه من مادة ثرة لوجدناها موزعة بين عشرات الدراسات ولكنها كما الأعضاء المفصولة من أجسادها فهي في مكانها من الكتاب في أحسن تقويم ولكنها فيما سوى أما كثرة أشلاء مبعثرة، وذلك سر تعلقي بالأغاني وللجوء إليه للراحة والمتعة والفائدة والأغاني بطريقته الفريدة ك(الكتاب) ل(سيبويه) الذي لقي اهتماماً من القراء والدارسين وظلت قراءته الشرط الرئيس لمن أراد أن يكون أديباً مؤسساً لمعارفه مثلما كان (الكتاب) الشرط الرئيس لمن أراد أن يكون نحوياً مؤسساً لمعارفه.
الغريب أن كتاب (الأغاني) لم يكتمل ونهايته مبتورة ولم يصل المحققون إلى نهاية طبيعته له، ولم ينبر أحد لإكماله مثلما فعلوا مع كتب أخرى فقد أكمل (السبكي) كتاب (الودري) (المجموع) فيما أكمل (محمد سالم) كتاب (الشنقيطي) (البيان).