كنا نسمع أحدهم قديماً يكرر أن ابنه «متخرج في أمريكا»، وآخر يشير في سيرته الذاتية متباهياً بنبوغه بالقول إنه «خريج بريطانيا»، وكان ذلك كافياً ذلك الحين، فلم يكن معظم الناس يأبهون لمستوى الجامعات وتمايزها، إلا أنه ومع انفتاح مجتمعنا على الابتعاث بشكل واسع، ومع تزايد أعداد المبتعثين واقتراب أعدادهم من المئة ألف مبتعث من جميع مناطق المملكة يدرسون في عشرات الدول في برنامج هو الأضخم من نوعه في العالم، لم يعد ذلك كافياً، فقد أصبح المبتعث يتلقى السؤال عن اسم الجامعة التي يدرس فيها مباشرة بعد السؤال عن الدولة، كما أصبحت جهات التوظيف تبحث وتدقق وتقارن، وبالإضافة إلى ذلك، بدأنا نسمع العديد من النقاشات بخصوص مستويات الجامعات والتفاضل بينها. وفي نظري، فإن زيادة الوعي بهذا الموضوع أمر إيجابي، لأنه سيكون محفزاً للمبتعثين أو الراغبين في الابتعاث لبذل كل جهودهم للالتحاق بالجامعات المتميزة والمرموقة بحثاً عن التعليم الجيد، ولزيادة حظوظهم الوظيفية وفرصهم المستقبلية، ولكي لا يقال عنهم إنهم بحثوا عن الطريق الأسهل أو الأسرع للحصول على الدرجة العلمية.
والحقيقة إنني ومنذ صدور كتاب «الدراسة في الخارج» قبل نحو ثلاثة أعوام، وأسئلة القراء على بريدي الإلكتروني لا تتوقف عن أفضلية الدراسة في بلد معين وتحديداً بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا، أيها أفضل؟ وأي الجامعات أفضل؟ و»بماذا تنصحني؟»، ومن هذا المنطلق، واستجابة للحوارات والنقاشات المتجددة في هذا المجال يأتي هذا المقال ليناقش هذا الموضوع، وليعرض بعض المؤشرات التي يمكن أن تساعد في معرفة مستويات الجامعات، وليقدم أخيراً، بعض المقترحات لتشجيع المبتعثين والمرشحين للابتعاث على الالتحاق بالجامعات المتميزة ذات السمعة العالمية المرموقة.
في البداية لا بد من الإشارة إلى أهمية السمعة الأكاديمية، فما حققته بعض الجامعات الدولية من سمعة عالية لم يتحقق في يوم أو ليلة، بل عبر عشرات السنين من الصدارة في البحث العلمي والتعليم الجامعي. وبطبيعة الحال، فإن تقدم جامعة معينة في التصنيفات الدولية أو حصولها على سمعة جيدة لا يعني بالضرورة أنها الأفضل في كل شيء، فبعض الجامعات قد تتميز في تخصص أو تخصصات معينة، كما أن تحديد الأفضلية بشكل قاطع أمر يصعب تطبيقه، لأن التصنيفات الدولية تعتمد على مؤشرات معينة يركز معظمها على البحث العلمي والنشر. ومع ذلك تبقى السمعة العامة للجامعة مهمة جداً، كما يبقى لهذه التصنيفات قيمتها ووزنها الكبيرين. ومما يؤكد على أهمية التصنيفات أيضاً أنها ومع كثرتها وتعدد مؤشرات القياس فيها إلا أن الصورة التي يظهرها مجموع هذه التصنيفات لا تختلف كثيراً عن بعضها البعض، فجامعات الصدارة تحظى بالمراكز الأولى وإن اختلف ترتيبها قليلاً وهكذا بقية الجامعات. وفي دراسة نشرت العام الماضي (2009م) بواسطة باحثين في جامعة ميتشيجين، تم دراسة بيانات القبول للجامعات الأمريكية من 1998م وحتى 2005م، وأكدت الدراسة وجود زيادة ملحوظة في طلبات الالتحاق بالجامعات في العام التالي لتقدمها في تصنيف الكليات والجامعات College and University rankings والذي دأبت على إصداره سنوياً مجلة يو إس نيوز US News منذ عام 1983م (وهو أحد أهم التصنيفات للجامعات الأمريكية)، مما يؤكد أهمية هذه التصنيفات وأنها ستبقى- شئنا أم أبينا- وسيلة يتم تقييم الجامعات بها لمعرفة مستواها ومستوى خريجيها.
لم تبرز وتنتشر التصنيفات الدولية للجامعات من مختلف دول العالم إلا في الأعوام العشرة الأخيرة، بسبب العولمة وثورة الإنترنت والاتصالات والتي أصبح العالم فيها قرية صغيرة، وفي السابق وجدت تصنيفات خاصة بدول معينة وخاصة في أمريكا، حيث توجد العديد من التصنيفات للجامعات الأمريكية، كتصنيف مجلة يو إس نيوز US News الذي أشرنا له سابقاً. وأشهر التصنيفات الدولية في نظري هو التصنيف الأكاديمي لجامعات العالم Academic Ranking of World Universities المعروف بتصنيف شانغهاي والذي نشر لأول مرة عام 2003م في جامعة شانغهاي جياو تونغ Shanghai Jiao Tong University، وكان هدفه في البداية معرفة واقع الجامعات الصينية بالمقارنة مع الجامعات العالمية وفق مؤشرات معينة، إلا أن هذا التصنيف حظي بقبول واحترام كبيرين ولقي شهرة واسعة عاماً بعد عام، واعتبره الكثير من المهتمين والمجلات والدوريات المتخصصة أكثر التصنيفات الدولية أهمية وتأثيراً، حتى أصبح اليوم الذي تعلن فيه النتائج (15 أغسطس) يوماً يترقبه بكل شوق مسؤولو الجامعات والمهتمون والباحثون، كما يكفي أن تكتب عنوان هذا التصنيف في محرك البحث جوجل (Google) ليظهر لك أكثر من ستة ملايين رابط أشارت لهذا التصنيف.
تصنيف شانغهاي لعام 2010م نشرت نتائجه منتصف الشهر الماضي (أغسطس)، ويحتوي على تصنيف عام لأفضل 500 جامعة في العالم، وعلى تصنيفات خاصة بحسب التخصصات الرئيسة لأفضل 100 جامعة، وكان من الأخبار السارة دخول جامعتين سعوديتين ضمن قائمة أفضل 500 جامعة هما جامعة الملك سعود وجامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وهما الجامعتان الوحيدتان من عالمنا العربي، وهناك سبع جامعات من إسرائيل، و10 جامعات من كوريا الجنوبية. وللمعلومية فإن نحو ثلث الجامعات (154) في هذا التصنيف هي جامعات أمريكية. ولو نظرنا لأفضل 20 جامعة في هذا التصنيف فإن 17 منها أمريكية، واثنتان بريطانيتان وواحدة يابانية. أما في أفضل 50 جامعة فإن 35 منها أمريكية، وفي أفضل 100 جامعة فإن 54 منها أمريكية، وهذه الأرقام تؤكد الفارق الكبير بين أمريكا وبقية دول العالم، كما توضح هذه الأرقام العلاقة القوية بين التفوق العسكري والهيمنة الاقتصادية وبين التميز في التعليم والبحث العلمي. وربما يكون من الأفضل مقارنة ولاية واحدة من ولايات أمريكا ببقية الدول لتقريب الأرقام، ولو فعلنا ذلك وأخذنا ولاية كاليفورنيا على سبيل المثال، فإن عدد الجامعات الموجودة فيها وحدها ضمن أفضل 100 جامعة في العالم هو عشر جامعات مقابل 11 جامعة بريطانية وخمس جامعات ألمانية ومثلها يابانية وأربع كندية وثلاث أسترالية.
إن التقدم في التصنيفات المختلفة هو مؤشر مهم ينبغي للمبتعثين أو الراغبين في الابتعاث والدراسة في الخارج الاهتمام به لمحاولة الانتساب لإحدى «جامعات الصدارة» والتي اكتسبت شهرة كبيرة وسمعة عالمية مرموقة. وكما أن التفوق والسمعة العالية من أحد مؤشراتها التقدم في التصنيفات الدولية، فإن من مؤشراتها الأخرى تمكن خريجي الجامعة من الحصول على فرص العمل الجيدة بالرواتب والمميزات العالية، وفي أمريكا -على سبيل المثال- يحظى خريجو جامعات مثل هارفارد ومعهد ماستشوسيتس التقني MIT وكاليفورينا بيركلي وستانفورد وكورنيل وغيرها من الجامعات الرائدة بمزايا وظيفية لا يحظى بها خريجو الجامعات الأخرى، بل إن جهات التوظيف تسعى لاستقطابهم وتوقيع عقود العمل معهم وهم لما يزالون على مقاعد الدراسة. وفي كل دول العالم يوجد تفضيل لخريجي جامعات معينة، وحتى لدينا في المملكة، فالجميع يعرف أن خريجي جامعة الملك فهد للبترول والمعادن يحظون بسمعة جيدة كما يحظون بمزايا في القطاع الخاص لا يحظى بها خريجو الجامعات المحلية الأخرى.
هل توجد جامعات ذات مستويات أقل أو لا ترقى لمستوى الجامعات المتميزة؟ نعم وبكل تأكيد والمؤشرات التي يمكن الاستدلال بها كثيرة، وإذا اجتمعت هذه المؤشرات فإن من المستحسن الابتعاد عن الجامعات التي تتوافر فيها جميع أو معظم هذه المؤشرات. من المؤشرات غير الجيدة الاختفاء أو التأخر في التصنيفات الدولية أو الإقليمية أو حتى المحلية، وكما تقدم فإن هذه التصنيفات وإن كانت لا تعطي دلالة قاطعة على مستوى الجامعة إلا أنها، مع المؤشرات الأخرى، يمكن الاستفادة منها لمعرفة وضع الجامعة عموماً وخصوصاً في مجال البحث العلمي والدراسات العليا. ومن المؤشرات التي ليس من الصعوبة اكتشافها سهولة إجراءات القبول، فالجامعات الضعيفة لا تكاد ترفض أي متقدم لها ما دام هو أو من يبعثه سيتكفل بتسديد الرسوم الدراسية. أما الجامعات القوية فتشتد المنافسة على مقاعدها ويصبح الظفر بمقعد فيها تحدياً صعباً، إذ يتقدم لها عشرات الآلاف من الطلاب المحليين والدوليين، ويتم المفاضلة بينهم في الكليات والأقسام الأكاديمية وفق أسس موضوعية وعلمية محددة، كنتائجهم الدراسية ونتائجهم في الاختبارات القياسية وقدراتهم اللغوية مع عدم الاكتفاء بالنجاح أو إكمال مستويات اللغة في أحد معاهد اللغة بل لا بد من الحصول على درجة محددة في اختبارات اللغة كالتوفل TOEFL أوالآيلتس IELTS، وهناك أيضاً اختبار القدرات لطلاب الدراسات العليا في الجامعات الأمريكية المعروف بGRE.
ونتيجة للسياسات المتساهلة في قبول الطلاب لدى الجامعات الضعيفة فإنه يترتب عليها التحاق طلاب ما كان لهم أن يقبلوا أصلاً مما يؤدي لاستمرار تعثرهم الدراسي، وحتى مع تكرر رسوب الطلاب واستمرار تعثرهم الدراسي، فإن هذه الجامعات ولأهداف مادية لا تقصي طالباً عن الدراسة، حتى مع تبين ضعفه وعدم قدرته على مواصلة الدراسة، وفي المقابل فإن الجامعات القوية لديها سياسات واضحة لمتابعة الطلاب والتأكد من قدرتهم على مواصلة الدراسة ومن يتضح إهماله أو عدم قدرته يتم إنذاره مرة أو مرتين ثم يتم فصله من الدراسة لتوفير وقته وجهده وماله، ولكي لا يؤثر على سمعة ومستوى الجامعة أو على الطلاب الآخرين.
ومن المؤشرات غير الجيدة أيضاً كثرة البرامج السريعة في بعض الجامعات والتي يغلب عليها الطابع التجاري مثل برامج السنة الواحدة للماجستير أو البرامج الدراسية المخصصة للطلاب الأجانب، أو البرامج المخصصة لغير المتخصصين بحيث يتم قبول الطلاب فيها في برامج معينة في الماجستير مثلاً بغض النظر عن تخصصاتهم السابقة في البكالوريوس، ومن المؤشرات غير الجيدة أيضاً كثرة الطلاب الأجانب في الجامعة وزيادة نسبتهم بشكل كبير، وعموماً فإن المؤشرات السابقة من السهولة معرفتها وبالتالي الابتعاد عن الجامعات التي تتوافر فيها هذه المؤشرات، علماً بأن وجود أي مؤشر لوحده لا يعني بالضرورة أن الجامعة ضعيفة بل يجب النظر لمجموع أو معظم هذه المؤشرات كما أشرنا لذلك سابقاً.
في الجزء الثاني من المقال سيتم مناقشة أهمية الانتساب لإحدى الجامعات المتميزة، ثم عرض بعض المقترحات لتشجيع المبتعثين والمرشحين للابتعاث على الالتحاق بالجامعات المتميزة ذات السمعة العالمية المرموقة.
أكاديمي - مؤلف كتاب «الدراسة في الخارج»www.taleb.net