لم تكن زيارتي لبلاد الألمان محض الصدفة إلا أنها مشيئة الله سبحانه وتعالى حين رأيت أعاجيب كان لها وقع في نفسي...
لم يكن بتلك المدينة التي يقال لها «أولم» (ULM) شيء يختلف كثيرا عن مثيلاتها من البلدان سوى جوها الجميل صيفا وبساطة الناس الذين تكسيهم الحياة الريفية بشكل خاص... مما أثر على حسن تعاملهم على مدى باقي الفصول!
من فضلكم ضعوا أياديكم بيدي كي نتجول معكم ونريكم تلك المشاهد بالألوان حتى وإن طبعتها الجريدة بلون واحد!
من مدينة أولم تلك المدينة الصغيرة والتي تقبع على ضفاف نهر الدانوب كانت عقارب الساعة تقترب من الواحدة ظهرا... ترى الناس هناك متجمهرين عفوا أقصد بطابور منظم يزينه الهدوء، حتى أن ذلك الطابور لم يكن طويلا ولم يكن معهم شرطي وحتى لم يفكر أحدهم أن يسبق الآخر! اعذروني فأنا أحاول أن أسابق ذاكرتي حتى ألون لكم تلك المشاهد... كل ما في القصة أن هؤلاء البسطاء وبكل ذلك النظام الذي شاهدته قد حضروا ليشاهدوا فقط منزل عالم الفيزياء إنشتاين ذلك المنزل الذي لا تتجاوز مساحته 20 مترا حتى لو أدخلنا معها ارتدادات بلديتنا الموقرة!
النظام يجعلك ترى الآخرين كما ترى أنت صورتك بالمرآة
أول يوم دلفنا فيه أنا وصديقي - أبو إبراهيم - إلى السوق استوقفتنا دورية الشرطة وكإجراء روتيني حيث إننا غرباء في المنطقة فقد تخللت تلك المقابلة بعض الأسئلة البسيطة والتي سريعا ما تحولت مقابلتهم بالأخير إلى شيء من جو الدعابة والمرح فقد كانوا مع البساطة ظرفاء! إلا أنهم لم يسألونني «فين تشتغل؟»
عامل الناس بمثل ما تحب أن يعاملوك به
إلى الآن لم أسوق لكم أي شيء عجيب أو غريب لكن العجيب هو حبهم للنظام والغريب هو أن النظام يسري عليهم دون تمييز!.... خذوا هذه، كنت خارجا يوما من أحد المحال التجارية هناك وكالعادة ترى الطوابير في كل مكان، - وما تعجبت منه- هو ما إن خرجت حتى وجدت طابورا من شخصين فقط يقفان خلف بعضهما أمام كشك صغير... وطابورا آخر تثاقلت له خطاي من شدة ما تعجبت منه! صحيح أنه لا يتجاوز الخمسة لكن لماذا الطابور وعلى ماذا! كل هذا ليعطوا سائلاً رَكَن عند أحد المحلات يستجدي الناس بفائض ما عندهم!!! فعلا لم أصدق فقلت لعلهم يبالغون...
النظام، كالمشط له أسنان متساوية من أجل تسريح الشعور المجعدة!
تأتي عند أحد التقاطعات المرورية التي فعلا تعجبت من تلك الحركة الرائعة فقد كانت سيارة واحدة تقطع ثم تقطع سيارة أخرى من الجهة الأخرى المقابلة رغم الصفوف الطويلة التي تخفي بعض معالم السيارات من بعدها! والتي للأسف لو كانت عندنا لحطمت الرقم القياسي في الوفيات... طبعا قبل وضع الصبات الأسمنتية كأحد الحلول المعهودة والتي أصبحت مثل قهوة بعد المغرب عندنا..
يكفي أن تعرف أن معنى التقاطع عندهم هو: قناة لتسهيل العبور! لا ليكون مصدراً للحوادث!!!
كنت أقف في السيارة عند الإشارة الضوئية... وإذا بأحد المارة عجوز تمشي ممسكة دراجة هوائية كادت تسقط معها على الأرض من أثر الرعاش الذي ينبئ عن كبر سنها وتجعد وجهها.. وما أن وصلت ناحية الطرف الآخر للشارع حتى جمعت قواها وتنفست بعمق حتى تركب الدراجة فتمسك برجلها بعد أن ترفعها على الدراجة لتقذف بها للناحية الأخرى حتى تتمكن من الركوب! الحقيقة ضحكت وتعجبت في آن واحد.
حين توقف بنا الباص ونزلنا رأيت رجلا طاعنا في السن يمسك تلك العكاز التي تساعده على المشي وظل يمشي على مهل... ذهبت بعدها لآخذ بعض الحاجيات من السوق وما أن رجعت حتى وجدته ما زال يمشي.. صحيح أنه كان أقل من مهله لكنه مشى أكثر من ساعتين!!
تقول العجوز صاحبة حانوت صغير لبيع ملابس الأطفال: نحن ندفع كثيرا من الضرائب لكنها ستكون هي أموالنا التي ندخرها عندما يقعدنا المرض أو كبر السن...
كل شيء يمكن أن يخسروه هناك إلا صحتهم
تقف سيارات خلف بعضها بكل هدوء ويتكدس الشارع بالسيارات المتراكمة خلف بعضها وكأن تلك السيارات صنعت بلا بواري... وبكل هدوء ينطلقون مثل هدوئهم في توقفهم...
تخيل أن كل طريق تحمل أرضيته تقاطع عبور المشاة فإن الأفضلية للناس التي تمشي على الأقدام! وأما قائدو السيارات فيجبروا على التوقف ليعطوا الأفضلية لمن ينتظر واقفا على أرجله أو بدراجته الهوائية.. وبكل أريحية!!!
ليس هذا فحسب بل ومعها توزيع ابتسامات وكأنك تفضلت على قائدي السيارات بالوقوف!
في صيدليات الألمان تجد كل شيء يباع على الرفوف، إلا حبوب الضغط وأدوية الحموضة!
الاعتزاز بلغتهم من أعجب مارأيت! حتى أن اللوحات الإرشادية ولوحات المطارات أغلبها باللغة الألمانية وعندما سألت سائق تاكسي المطار: لماذا لم تكن اللوحات بالإنجليزية لأن الإنجليزية لغة عالمية؟ رد علي وقال: نحن لسنا بحاجة للإنجليز! بل هم بحاجتنا.
العزة.. هي أن تري الآخرين مدى ثقتك بنفسك
في إحدى مراجعات ابني للمستشفى، تأخرت بسب الوضع الصحي الذي كان يعيشه ابني وقد كان التأخير شيئا قليلا عن الموعد والذي يعتبر عندهم في قمة الاستياء حين تتأخر فما بالك في عدم الحضور! وأثناء طريقي إلى المستشفى اتصلوا للاطمئنان فأخبرتهم أني بالطريق وتأخرت بسبب ظرف طارئ لابني... وحين وصولي للمستشفى تفأجأت أنهم بانتظاري يسألون عني وهل ابني على مايرام!!! سطروا أروع الأمثلة التي شاهدت في كسب ثقة واحترام الآخرين.
عندما يكون المجتمع صادقاً.. لا تفكر أن تكذب ولو كنت مازحاً
تكاتف عجيب وبعيد عن الرأسمالية بل كان يجسد كل معاني الإنسانية: البروفيسور فريدريش - الطبيب الذي كان يشرف على حالة ابني الصحية - تفاجأت أنه عرض علي مبلغا من المال كسلفة وذلك حين علم أني ما زلت في طور عدم الاستقرار ظنا منه أني قد أحتاج للمال... وقال لي: أريد أن أجعلكم تستقرون حتى نفسيا، فهذا سيكون له مردود نفسي لابنكم!!!
حين تفقد إخوانك في بلد ما... فحتما سيكون هناك أكثر من إنسان!
حين تخرج الصباح تتعجب فعلا وأنت تجد أكثر من يقابلك يقول لك صباح الخير!! ليس هذا فحسب بل تجد الابتسامة وكأنها رسمت على وجوههم بريشة فنان...
إن يسبقونا في الصناعة فهو أمر طبيعي! لكني تحسرت أن يسبقونا في شيء مما أمر به ديننا «تبسمك في وجه أخيك صدقة»
بالرغم من كل هذا إلا أنهم مساكين! بحثوا عن السعادة فابتعدوا عنها كثيرا بل وكثيرا جدا حتى وصولوا حافة الهاوية، قد أعطاهم الله عقلا صنع لهم تلك الحضارة وأبدع لهم بتلك الصناعة لكن ما أسهل مايعلنون تجردهم عنه وبراءتهم منه ولو لفترة وجيزة وكأنه عيب قد ألبسوه أو جاثوم يريدون أن يصحوا منه! وذلك حين تجد حانات الخمارات في كل مكان، شرب بشراهة حتى أن ذلك الشراب يجعل منهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على أربع! فسبحان الله،الذي يخلق ما لا تعلمون...
ولا زلت أتجول معكم في ردهات وأزقة مدينة «أولم»...
الشمس مشرقة مع صفاء لم أره في حياتي وكأنك تنظر إلى إحدى دعايات زيت الذرة الصافي!! تذكرت حينها ماذكره لي أحد الأصدقاء هناك من احتياطات في تقلبات المناخ المفاجئة،، اسمحوا لي فهذا ليس ضرب من الخيال بل أصبح من حقوق الألمان... تخيل وأنت تستمع إلى شريط أو إلى إذاعة معينة أو لنفرض جدلا أنك لم تفتح الراديو، إلا أنك تتفاجأ بالراديو يشتغل في سيارتك أتوماتيكيا ويكون بصوت مسموع ليحذر من عاصفة أو من تغير مناخي مفاجئ في منطقة معينة ليرشد قائدي السيارات إلى الطريق الآمن...
المذياع يمكن أن يذاع فيه غير الأخبار!!
وأنت على الطريق السريع تتفاجأ بتخصيص طائرات هليكوبتر لنقل المصابين في حوادث الطرق إلى مستشفيات خاصة بالحوادث ولا تستقبل إلا الحوادث حتى يخرج منها المصاب إما يمشي أو على الكرسي المتحرك.
لاحظت أن مستشفياتهم لم تصمم كي تستوعب المرضى في الممرات!
الطرق السريعة بين المدن تكون عادة مفتوحة السرعة رغم التقلبات السريعة للطقس أحيانا. ولا ترى إلا السيارات التي تمر من جانبك وهي تسابق الريح وكأنها تستعد للإقلاع في رحلة دولية!!
اللوحات الإليكترونية على جوانب الطريق تفيد بأن السرعة مفتوحة! ثم لا تلبث أن تتغير بسرعة متدنية بسبب الأمطار ثم أقل منها حال الضباب!! العجيب أنك ترى السيارات وكأنها هي التي تدار بالريموت كنترول من شدة التقيد بالسرعة المقررة وليست اللوحات التي تتغير تبعا لتغير الطقس!
كل هذا، إلا أني لم أرَ ولا حادث مروري طيلة التسعة أشهر التي مكثتها هناك!!
بالرغم من السرعات العالية والجنونية بنفس الوقت! إلا أن النظام كان هو الذي يطغى ومع ذلك كان الهدوء هو دائماً سيد المواقف!
دخلنا أحد المحلات لبيع الأجهزة الكهربائية فوجدنا عبارة (أهلا وسهلا) قد وضعت بلوحة مزينة فوق الكاشير فتذكرت اللوحات التي تفاجئك عندما تدخل المحلات عندنا -البضاعة المباعة لا ترد ولا تستبدل-
.. العجيب أني أخذت سلعة من أحد المحلات فوجدتها أرخص بكثير في محل آخر بنفس المدينة وحيث إن السلعة لم تكن رخيصة إلا أني رغبت في إرجاعها فقالوا لي الإرجاع مقبول لكن نريد أن نعرف السبب حتى نحسن من جودة المنتج إذا كان به ما يعيبه.. أو نزيد من التنافس السوقي إذا كان مطلوب وللمعلومة فإن ذكر السبب هو خيار لك!
بقي أن تعرف أنه لا يوجد هناك من يصلح الأجهزة! لأن الضمان يسري لفترة طويلة من الزمن! لكني لم أجد في بنود ضمانهم أنه لا يشمل سوء الاستخدام!! - تخيل أنه يمكن أن تجد طاحونة أو جهاز استشوار له ضمان خمس سنوات وأحيانا يصل إلى سبع سنوات-
نسيت أن أقول لكم إني وجدت إحدى شركات الأثاث المشهورة جداً في فرعها بألمانيا قد أعلنت ضمان خمس وعشرين سنة لمنتجاتهم بينما نحن لم نفرح ولا بسنة واحدة من الضمان!!!
يقول أحد اليهود: منتجك الذي يكلفك دولارا سوق له بثلاثة دولارات
ذات مرة تذمرت الناس من طول الانتظار في محطة الباصات بسبب كثرة توافد الناس على الباصات وعدم كفاية الباصات لنقل كل من ينتظر خصوصا وقت الذروة..
وبعاجل الأمر تم تكليف مجموعة من الشباب لإجراء مسح ميداني وقد رأيت اثنين منهم ممن أجروا معي ومع غيري في الباص الذي يقلنا بعض الأسئلة التي تنم عن محاولة لجمع أكبر قدر من البيانات للحصول على نتيجة مرجوة وحل عاجل لهذه المعضلة..
لم أصدق مارأيت بعد فقط ثلاثة أيام من إنهاء المسح الميداني تم تدشين مجموعة جديدة من الباصات للانضمام لقوافل الباصات! يبدوا أن السرعة كانت لأنهم اعتمدوا على بعض الشباب المؤهلين والجادين ولم يكن هناك تشكيل لجان!!!
تذكرت المثل الذي يقول: أرسل حكيما ولا توصه
صدقوني بعدها عرفت ثقة هتلر في نفسه يوم كان يريد أن يجتاح العالم والناس كانت تقول عنه: مجنون! لكنهم لم يعلموا أنه كان يعطيهم دروساً في الثقة بالنفس.
وأخيرا ألسنا نحن كمسلمين أولى منهم بكل هذا؟ ومتى سنصل إلى ماوصلوا إليه؟ وهل ستكون أسئلتي هذه من الأسئلة التي لا يوجد لها إجابة في العالم؟
yoazzaz@yahoo.com