من أكثر المواضيع عندنا التي يكثر فيها الخلط واللبس سواء من الناحية القانونية أو الاقتصادية وتنتهي بقلب الأمور عن جهل وعن قصد هو موضوع تحديد حد أقل لأجور السعوديين. فبعض الذين يناقشون هذا الأمر يصدق عليهم القول في أطروحاتهم نحن لا توسط عندنا، فإما أن نسعود المصانع وعمال المقاولات والخدم وإما نفلت الحبل لجميع القطاعات. هناك ضرورة اقتصادية واجتماعية ماسة الآن لتخفيف البطالة وامتصاصها فورا. وكل إستراتيجيات الدولة الاقتصادية والتعليمية بحاجة إلى عقود لجني ثمارها، بينما تتوفر الآن قطاعات معينة تسهل فيها السعودة ويسهل فيها خطأ الموظف وإهماله وتستوعب مئات الألوف من الوظائف ويرغب فيها السعوديون لما فيها من متعة الاحتكاك بالمجتمع وممارسة فن التسويق والبيع، كقطاع التجزئة الكبير.
وتحديد قطاع ما أو مهنة معينة بحد أدنى للأجور سواء أكان العامل أجنبيا أو سعوديا أعتقد -ولا أجزم- أنه طريقة قانونية للالتفاف على القانون الدولي والتجارة العالمية الذي يمنع التمييز بين الأجنبي والسعودي في الحد الأدنى للأجور.
إن أصل مشكلة البطالة عندنا أمران: قلة الأجور التي تُحبط العامل السعودي، وقدم المظلة القانونية لسوق العمل والذي ينفر التاجر من توظيف السعوديين.
ولن أتحدث اليوم عن المشاكل الأمنية والاجتماعية التي تنتج عن انخفاض الأجور، بل عن تأثيرها السلبي على الاقتصاد العُمالي وعلى الإنتاجية واقتصاد السوق المالي والنمو الاقتصادي.
إن أي أجر أقل من 5000 ريال شهرياً للموظف السعودي في القطاع الخاص في هذه المرحلة التي نبني فيها سوق عمالة سعودية سيخلق ثقافة عامل سعودي محبط ومهمل وغير ملتزم وغير راغب في تطوير نفسه، مهما تفلسف الأفلاطونيو القطاع الخاص.
وبالتالي فإن سوق عمالة كهذه سيتسبب في استمرار مشاكل البطالة وفشل أي مشروع سعودة حقيقي وذلك بسبب عزوف أصحاب العمل عن هذا النوع من العمالة.
ومن جهة أخرى فإن المنتج والتاجر بحاجة إلى نظام عمل يحميه من تواكل السعودي وإهماله، وذلك بتسهيل عملية الفصل والاستغناء ولو عمل العامل لسنوات.
وسوف يقع ظلم، ولكن سوق العمالة حينها سيكون كبيرا فيقدر على امتصاص العامل المظلوم بتوظيفه مرة أخرى ونجاحه -إن كان مظلوما- في موقع أخر.
إن من أكبر أسباب تعثر السعودة ورفض التاجر لها هي عملية الاستثناءات للمنافسين.
فتحديد الأجور لمهنة أو قطاع دون أن يُطبق النظام على جميع المنافسين بدون استثناءات هو وأد فوري لأي مبادرة في ذلك، فالأجور المرتفعة ستنعكس على ارتفاع قيمة السلعة.
وتوظيف السعودي قد يؤدي إلى تدني مستوى الخدمة مؤقتا، إلى أن تنتشر ثقافة السعودة في ذلك القطاع، فيجب أن يتساوى جميع المتنافسين من التجار في ذلك.
توظيف السعودي بحد أدنى لا يقل عن 5000 ريال شهريا هو خلقٌ للطبقة الوسطى مما يحفز النمو الاقتصادي الحقيقي ويبني مجتمعا متكافلا.
فبحساب بدائي، فلو افترضنا أنه تم توظيف 300,000 من السعوديين والسعوديات في محلات التجزئة وما شابهها فإن مجموع أجورهم السنوية سيصل إلى 18 مليار ريال -على أساس 5000 ريال شهريا- ولكنها هذه الأموال لن تخرج من الوطن وسيُصرف غالبها داخله.
فذو دخل شهري يبلغ 5000 ريال في حاجة ماسة إليه في الضروريات والحاجات، ولذا سيصرف هذا الدخل داخل البلد وعلى منتجات سعودية غالبا لانخفاض أسعارها.
وأما التضخم فسيحصل وسينعكس -بحسبة بدائية- على صورة مبلغ 30 ريالا شهريا زيادة في أسعار المشتروات لكل فرد - على افتراض 25 مليون ساكن وبخصم فرق كلفة الموظف الآن- وهذا إذا افترضنا أن التاجر حمل جميع كلفة توظيف السعوديين على المستهلك ( على أسوأ الأحوال بغض النظر عن مرونة السلع).
فهل 30 ريالا شهريا تأتي في صورة تضخم هو مانع من توظيف 300,000 مواطن بأجور يستحقونها، بينما تسلم السوق النقدية من التحويلات الخارجية وتنمو التجارة المحلية -التي ستزدهر بدخول قوة شرائية جديدة- وتعود الطبقة الوسطى إلى المجتمع وينتشر روح التكافل فيه.
إن مما سكت عنه، أن بعض السعوديين لا يرغب في التعامل مع أخيه السعودي وهذه الفئة موجودة في جميع شرائح المجتمع السعودي الفكرية والاقتصادية، وهؤلاء هم الذين يهولون الأمور ويضعون العقبات أمام أبنائهم وبناتهم ويحولون اللوم على غيرهم من الذين يعملون بإخلاص لأجل الوطن.