ومن المعلوم أن معظم – إن لم يكن جميع العلوم الصحية تتطلب مع الدراسة تطبيقات عملية وتدريباً على أداء المهمات الطبية في مرافق صحية مؤهلة لذلك (مستشفيات أو غيرها حسب التخصص) يتوافر بها الإشراف الجيد...
...والشعور القوي بالمسؤولية لدى المشرفين على التدريب وهذا مطلب لا مناص من تحقيقه إما بأن يكون لدى الكلية المعنية (أهلية أو حكومية) مرافقها الخاصة بها أو بالاتفاق مع جهات صحية أخرى (مستشفيات وزارة الصحة مثلاً) على استخدام مرافقها والاستعانة بكوادرها المؤهلة لذلك.
وعلى سبيل المثال أبرمت وزارة التعليم العالي مع وزارة الصحة قبل ما يقرب من ثلاثة أعوام اتفاقيه للتعاون بين الكليات الطبية التابعة لها ومستشفيات وزارة الصحة في مجال تعليم وتدريب الطلاب. وتفعيل هذه الاتفاقية من شأنه التيسير على كليات العلوم الطبية الجديدة بدلاً من استئجار مبانٍ قاصرة في إمكاناتها. وقد يمكن العمل على منوال هذه الاتفاقية مع الكليات الأهلية. إن الهدف المنشود من وراء التأكيد على الدقة والنوعية في القبول وفي الناحية التعليمية - ومن ثم وضع التعليم الصحي في مسار منظم واضح المعالم - هو في المحصلة ضمان المستوى الجيد لمخرجات التعليم الصحي وتلبيتها للاحتياج الحقيقي. وهذا الهدف يحوم فوقه غمامة من القلق، إذا لم يتم التحكم في معايير القبول - خاصة في الكليات الأهلية والجامعات الخارجية، وكذلك ربط عملية القبول بدرجة الاحتياج ونوعه، حتى لا نجد أنفسنا يوماً ما في مواجهة أعداد من المتخرجين يفيضون عن الحاجة في بعض التخصصات. ومن ناحية أخرى فإن ضعف مستوى التعليم وإمكانات التدريب في أي كلية صحية في الداخل والخارج سوف نلاقى نتيجته الكارثية في تدني مستوى الخريجين ومن ثم تدني مستوى الخدمة الصحية التي يقدمونها لمواطنيهم. وقد لاحظ الدكتور محمد الرافعي - مدير إدارة طب الأسنان بوزارة الصحة - هذه الظاهرة فيما يتعلق بتخصصه مما دفعه إلى أن يقترح في دراسة حديثة تكوين لجنة عليا من الجهات ذات العلاقة لتحديد الاحتياج الفعلي من أطباء الأسنان ومن ثم من كليات طب الأسنان، كما اقترح شرطاً لممارسة المهنة هو اجتياز اختبار نظري وعملي لكافة الخريجين من الداخل والخارج.
وقد لاحظت الهيئة السعودية للتخصصات الصحية هذه الظاهرة نفسها عند بعض الخريجين من جامعات دول معينة منحتهم درجة البكالوريوس ولكن الهيئة رفضت تصنيفهم وصارت تخضع الحاصلين على شهادات بكالوريوس أجنبية أو من كليات أهلية لاختبارات التقويم. ذلك أن شهادة البكالوريوس في حد ذاتها ليست ضماناً للمستوى الجيد والنوعية الجيدة من المتخرجين. كما أن الانكباب على تحصيل درجة البكالوريوس لا يمكن أن يلغي الحاجة إلى الفنيين حملة الدبلوم.
هل سيقنع حامل بكالوريوس الصيدلة أو أخصائي المختبر أو أخصائي الأشعة أو أخصائي الصحة العامة أو غيرهم من حملة البكالوريوس بالعمل في مركز صحي صغير بقرية نائية أو حتى في مركز صحي بحي من أحياء مدينة صغيرة، وهل سيعمل هؤلاء الأخصائيون في المستشفيات بدون مساعدين لهم يتولون المهام الأبسط والأقل خطورة وتعقيداً؟ لذلك فان الحاجة إلى تعليم صحي فني ستظل قائمة، وربما تكون هذه مهمة المعاهد الصحية الأهلية وكليات المجتمع أو ربما تنشئ الكليات الجامعية الأهلية والحكومية برامج للدبلوم الفني إلى جانب البكالوريوس. لكن حتى في التعليم الصحي الفني فإن المستوى الجيد للخريجين وملاءمة أعدادهم للاحتياج الحقيقي مسألة لا جدال فيها. من المؤكد أن أعداد حملة الدبلوم الفني في الوقت الحاضر تفوق أعداد حملة البكالوريوس بنسب مضاعفة - حتى في المستشفيات، باستثناء المستشفيات المرجعية ولعل هذا يفسر قرار وزارة الصحة بقصر التعيين على حملة البكالوريوس بعد ثلاث سنوات وقد يتغير القرار بعد اعتدال النسبة.
التعليم الصحي يؤثر مباشرة على صحة الناس وتمتزج فيه الدراسة بالممارسة وتتجاور في ساحته الأهداف الشخصية والمادية مع الاجتماعية، ولو تعارضت هذه الأهداف فإن الفوضى لا تكون بعيدة الاحتمال ويعطينا تطبيق اللائحة المنظمة لتعاون أعضاء هيئة التدريس مع القطاع الخاص الصادرة عام 1412هـ خير درس وموعظة في هذا الشأن. إن هذا يؤكد أن التعليم الصحي ينبغي أن يحظى من الناحية العلمية والأكاديمية بإشراف واع ومتمكن، وهذه مهمة الجامعات بالنسبة لكلياتها، أما في الكليات المنفردة فإن ذلك يتحقق من خلال الارتباط أو الانتساب إلى جامعة حكومية راسخة القدم (Affiliation) مع قيام الهيئة الوطنية للتقويم والاعتماد الأكاديمي بالتقويم المستمر - على الأقل بالنسبة للكليات الجامعية الخاضعة لأشراف وزارة التعليم العالي. والحال كذلك بالنسبة لتقويم المعاهد الصحية الأهلية عن طريق الهيئة السعودية للتخصصات الصحية. إلا أن هاتين الجهتين لا تستطيعان العمل بمعزل عن الجهات الحكومية والأهلية التي ستوظف خريجي هذا التعليم. فالتنسيق المنظم مع هذه الجهات أمر لازم من حيث تحديد مقدار الاحتياج وأولوية التخصصات وضمان دعم عمليه التدريب والتعليم ومستوى الخريجين وتوفير فرص التوظيف والتوافق بين مخرجات التعليم الصحي وأهداف الاستراتيجية الصحية للمملكة. ولا أرى آلية للتنسيق المنظم أفضل من الآلية التي اقترحها مشروع دراسة التعليم الصحي (آفاق) الذي نفذه لحساب وزارة التعليم العالي نفسها فريق علمي مكون من أصحاب الخبرة والباع الطويل في التعليم والممارسة الصحية في عام 1428هـ حيث اقترح الفريق إنشاء (الهيئة الوطنية للتعليم الصحي): (لتقوم بتنسيق التعليم الصحي بين الجهات ذات العلاقة من أجل إيجاد ارتباط مؤسسي وثيق بين وزارة التعليم العالي والقطاعات الصحية المختلفة لتحقيق الاستفادة القصوى من مستشفياتها في العملية التعليمية) وأرى أن تكون مثل هذه الهيئة مستقلة ذات أمانة عامة وتؤدى مهامها من خلال أعضاء متخصصين يمثلون الجهات المشاركة في الهيئة، لكن ليس من اللازم أن تكون كياناً حكومياً ذا مرجعية مستقلة بل مرتبطة إما بمجلس التعليم العالي أو بمجلس الخدمات الصحية. وقد يكون الأخير هو الأنسب لما يأتي:
1) أن من بين اختصاصات المجلس التنسيق والتكامل في مجال تعليم وتدريب وتوظيف القوى العاملة الصحية.
2) أن المجلس يمثل الجهات الصحية كافة بما فيها وزارة التعليم العالي (من خلال ممثلين اثنين) والقطاع الصحي الخاص (من خلال ممثلين اثنين) بالإضافة إلى الهيئة السعودية للتخصصات الصحية.
3) أن لمجلس الخدمات الصحيه تجربة ناجحة في إنشاء كيان مماثل ذي أمانة عامة واعتمادات مستقلة هو المجلس المركزي لاعتماد المنشآت الصحية.
إن من الواضح أن التعليم الصحي أصبح في الوقت الحاضر مثل البنيان الذي ترتفع طوابقه وتتعدد مداخله ومخارجه ويحتاج لمثل هذه الهيئة لحراسته. وليس المطلوب -حسب تصوري - أن تكون هذه الهيئة أكاديمية بل أن تكون أداة تساعد الجهات الصحية الأكاديمية والجهات الصحية الخدمية في ضبط مدخلات ومخرجات التعليم الصحي ورديفاً لهيئة التقويم والاعتماد الأكاديمي التي تضبط وتراقب وتقيم تطبيق المعايير الأكاديمية.
خلاصة ما أرى أنه يضبط التعليم الصحي في مسار موزون هو:
1) إنشاء هيئة التعليم الصحي المقترحة في مشروع دراسة ( آفاق ).
2) تشجيع الكليات الصحية الجامعية ( الأهلية والحكومية ) على إدخال برامج تطبيقية على مستوى الدبلوم الفني.
3) توجيه جميع الكليات المنفردة (أهلية أو حكومية) إلى الارتباط أو الانتساب لجامعات حكومية كبيرة (Affiliation).
4) تكثيف وتحسين فعالية الإشراف على تطبيق المعايير الأكاديمية وسير العملية التعليمية سواءً على مستوى التعليم الجامعي أو دون الجامعي.