تلقيت ببالغ الاعتزاز كتاباً ثميناً من لدن صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز نائب أمير منطقة القصيم الذي يعرف القريبون منه مدى ما يكنه للقيادة العليا من إجلال وتقدير على نحو يعكس متانة البعد العلائقي والتلاحم الوشائجي بين قيادات هذا الوطن المعطاء؛ هذا الكتاب بعنوان (ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز) وهو في الأصل محاضرة ألقاها صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز في جامعة أم القرى، وقد تم طبعها لاحقاً لتعميم فائدتها. وقد تقلبت بين صفحات هذا الكتاب وتجولت في أرجائه وسرحت بنظري في خمائله وقد خرجت بجملة انطباعات سأرقم أبرزها إشراكاً للقارئ في الفائدة وهي كالتالي:
أولاً:
قامت الدولة السعودية على أساس الكتاب والسنة حيث يشكلان الإطار المرجعي الأول حيث الوحي بلونيه: الظاهر والباطن هو المرتكز الذي ينهض عليه الدستور السعودي الذي جرى تقنين بنوده على ضوء أدبيات الوحي الذي يتسم بالتعالي المطلق على حدود الخبرة الإنسانية ذات الطابع الجزئي والنهائي والمحدودية.
الملك عبدالعزيز رحمه الله آثر الاتجاه نحو الاستضاءة بأنوار الوحي باعتباره الضامن الأساس لتوفير مظلة روحية ولتأمين قوالب تشريعية تنظم كافة أعمال البشر وتحدد أسس التعايش بين بني الإنسان على سطح هذه المعمورة. الشحنة الإيمانية والعاطفة الدينية المتوقدة التي كان عليها الملك المؤسس وشدة ارتباطه المنهجي بنصوص الوحيين هو ما حداه ليتعاطى مع مفردات التشريع الرباني باحتفاء استثنائي بالغ قد لا يوجد له نظير لدى مجايليه على نحو يعكس مدى الحضور التبجيلي للنص الشرعي في وعي الملك المؤسس طيب الله ثراه؛ هذا الاعتماد على الوحيين أشار إليه الأمير سلمان في كتابه (ملامح إنسانية من سيرة الملك عبدالعزيز) -وكل النقولات اللاحقة ستكون من هذا الكتاب - بقوله: «قامت الدولة السعودية على أساس الكتاب والسنة ولم تقم على أساس إقليمي أو قبلي أو أيديولوجي» (ص25).. ويقول: «فإن انتماءنا هو في الأساس إلى كتاب الله عز وجل وسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم»(ص26)، والملك عبدالعزيز أكد ذلك إبان خطابه في الحجيج حينما قال: «والحقيقة أننا سلفيون محافظون على ديننا نتبع كتاب الله وسنة رسوله»(ص28).
ثانياً:
يعزو الأمير سلمان نجاح الملك عبدالعزيز إلى عامل حيوي ومهم يتمثل في ذلك التماهي الشمولي المطلق مع مقتضيات المبدأ التوحيدي والصدور الكلي عن موجباته حيث يقول الأمير حفظه الله عن والده: «ولأنه جعل كلمة التوحيد هي الأساس الذي اعتمد عليه في بنائها وتطويرها وخدمة شعبها وفقه الله ويسرله سبل التوحيد والبناء»(ص29).
لقد كان الملك المؤسس يدرك بثاقب وعيه وبما يتوفر عليه من زخم في الحس الديني أن استحضار المبدأ التوحيدي والتجاوب التلقائي مع مستلزماته هو خط الدفاع الأول الواقي من جريرة الإلتياث بالوقائع المسلكية المجافية للصوابية وهو ما يشكل صمام الأمان في ظل وضع محتقن وراهن ملتهب يحيط فيه الأعداء بالأمة من كل جانب على نحو يتعذر معه الشعور ولو بأدنى درجات الأمان من غير استصحاب التوحيد كمبدأ يجب أن يصار إلى معانقة معالمه الوضاءة.
كان هذا المبدأ مقدساً لدى الملك عبدالعزيز رحمه الله ولا يقبل المساومة عليه بأي حال من الأحوال وهذا هو السر في كونه يباشر أداءه السياسي بدرجات عالية من الكفاءة والاقتدار وقد كان هذا المبدأ يعاني ألواناً من التهميش والإقصاء ولكن عندما آب عبدالعزيز إلى خارطة المشهد أعاد إليه الحيوية والاعتبار ودفعه ليتبوأ مقاماً عليّا بل جعله في ذروة سنام السلم القيمي. لقد أعاد الروح إلى هذا المبدأ الذي كاد أن يعتقل في زنازين النسيان وعمل على تسويق مبلوراته، وعلى ضوئه انبعث لتكوين نموذج في السياسة والحكم ترتكز معالمه على مقتضيات التوحيد وتنضبط باشتراطاته وهكذا بدت التركيبة السياسية متوشحة بإشراقات التوحيد وبارقة بإشعاعات العقيدة، تلك العقيدة التي لا تفتأ القيادة السياسية تكرر وفي كل مناسبة ضرورة التشبث بها وهذه العقيدة، كما يقول الأمير سلمان هي ما جعل هذه الدولة: «هدفا للأعداء الذين حاولوا ومازالوا يحاولون سلخها من عقيدتها لأنهم يعلمون أنه متى ما تخلت عنها فإن ذلك إعلان صريح بزوالها»(ص30).
ثالثاً:
الوسطية منهج اختطته هذه الدولة وآثرته مسلكاً تسير في دروبه وهذا يتجلى لنا فيما تطرحه القيادة من أدبيات تقرر محتويات مضامينها ضرورة النأي عن الإفراط والتفريط فكلاهما يفتقر للكفاءة اللازمة يقول الأمير سلمان: «ولاشك أن أعداء أساس هذه الدولة هم أولئك الذين يغالون ويتطرفون باسم الإسلام وهو منهم براء ويصبحون أداة هدم وإرهاب، أو أولئك الذين يؤيدون أسلوب التحرر من الدين ومبادئه وينادون بالتخلي عنه» (30،31).
وهكذا كما نرى فالنخبة السياسية تؤكد أن الأولوية للوسطية والتمسك بالعروة الوثقى بوصف ذلك هو الشرط اللازب لتحسين نوعية الحياة الروحية والمادية وهو المدخل الأساس لتجسيد المغازي الحضارية لبنية النسق العقدي الذي عندما تهيمن مقتضياته على المشهد فإن المدنية والارتقاء في سلم التقدم حاصلان لا محالة. ولو تأملنا لوجدنا أن مشكلاتنا دائماً تنبعث من طائفتين كلتاهما تنطلقان من وعي متأزم وتقتسمان جريرة التطرف والتطرف المضاد: أحدهما تذبح وتسلخ وتقتل وتسفك الدماء وتفجر المباني وتدمر المنشآت والمرافق باسم الإسلام، والأخرى تمتهن مصادمة الثوابت فهي تذبح القيم وتسلخ المفاهيم وتسفك المبادئ وتفجر المعاني وتنحر مقومات الرؤية السماوية تحت شعار المدنية والتحرر!.
رابعاً:
كانت المرأة على نحو عام تحتل مساحة بالغة الرحابة في حس الملك المؤسس ولم يكن هذا مجرد شعور مستكن في الخارطة الذهنية، بل كان له امتداداته التطبيقية حيث استحال إلى واقع مادي يعاش على الأرض. لم تكن المرأة خارج دائرة الوعي السياسي، بل كانت لازمة ذهنية لصانعي القرار راحوا على إثرها يوفرون كل ما تتطلبه المرأة من شروط العيش الكريم وذلك وفقاً للأفق الثقافي المعتبر في هذا الإطار ولذلك فقد كان المؤسس كما يؤكد الابن البار:» يستشير أخته الكبرى نورة رحمها الله في شؤون أسرته وشؤون النساء لقوة شخصيتها وتدينها ومحبتها للخير ويقبل شفاعاتها للناس دون تردد»(ص38).. أما النساء الأخريات فقد كان يخصص لهن» وقتاً في المساء للاستماع إليهن، قضاء حوائجهن وليطلع على أحوالهن على الرغم من مشاغله المعروفة»(ص38).
خامساً:
الخصومة في معظم الأحيان تكون مدعاة للثأر والتشفي والرغبة في الانتقام وكثيراً ما تملي تلك المشاعر على العقل تجافي المنهج القويم في المعاملة، فالأحاسيس عندما تسيطر على الوعي فإنها تحفزه وتحرضه على الاستجابة لمقتضياتها ولكن الأمر يبدو على نحو مغاير لدى الملك المؤسس حيث الخصومة بإلحاحاتها الضاغطة ليس لها أدنى مساحة في وعيه، حيث يتميز بقدرة عجيبة على تحييد مشاعره الوجدانية وترويضها، بل ويذهب إلى أكثر من ذلك فهو بما يتسم به من حنكة وحكمة بمقدوره تحويل العدو الشانئ إلى محب من خُلّص الأصدقاء متمثلاً في ذلك قول الحق جل في علاه: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ}.
ويشير الأمير سلمان إلى أمثلة في هذا الصدد كما في موقفه من رشيد بن ليلى، وعبدالعزيز بن زيد، ومشل التمياط، وسليمان بن عجلان انظر الصفحات 43- 48 ومن يتمعن في هذه القصص يستبد به العجب من تلك الروح الفياضة وتلك القدرة المذهلة والبراعة النادرة من نوعها على امتصاص مشاعر الحسد والعداء واستيعاب المناوئين والقدرة على نسيان تجاوزاتهم يقول عنه الابن البار: «وإذا نظرت إلى من كان يصحبه دائماً في سيارته الخاصة فسوف تجد أن معظمهم كانوا من معارضيه وأصبحوا من أخلص رجاله بل أصبحوا من أقرب الناس إليه»(ص47).
سادساً:
العدل قيمة ثقافية والإنصاف منهج رباني قويم والعقيدة بوصفها بنية تمدينية تفرض على التركيبة الذهنية المنفعلة بموجباتها ضرورة إحكام السيطرة على أهواء الذات وميولها العدوانية تجاه من أوقع عليها الحيف وطالها بالظلم والتأمل في سيرة الملك المؤسس يوقفنا على شخصية حققت قدراً لافتاً من التجرد والفصل بين العواطف والعقل وعدم الاستسلام لإغراءات المنصب وبريق الجاه حيث موقعه في قمة الهرم السلطاني يتيح له الإقدام والثأر وشفي الغليل وأخذ المتجاوز بذنبه ولكنه مع ذلك كان العدل هو المنهج الذي لا يحيد عن سلوكه ما وسعه الأمر إلى ذلك سبيلا ولذا نراه يتبنى الذود عن الضعفاء والمحاويج، بل ويمتهن المحاماة عنهم والدفاع عن حقوقهم وإنصافهم ممن طالهم بالإساءة وانظر الأمثلة على ذلك في (الصفحات 50- 55).
سابعاً:
الكرم سمة بارزة في شخصية المؤسس حيث يتعاطاه بتلقائية مطلقة وبعفوية متكاملة فالكرم لديه ليس تطبعاً عارضاً طارئاً، بل طبعاً ملازماً ينساب بكل يسر ويتدفق بأريحية لافتة فهو كرم جبلّي وسليقة خلقت معه يتجلى هذا حينما قامت الحرب العالمية الثانية وذلك حينما عمد إلى تخصيص» مواقع متعددة للضيافة وتقديم الطعام إلى المواطنين في أنحاء البلاد لرفع معاناتهم وانتشرت المخيمات والمطابخ والمخابز والمبرات في أنحاء البلاد لتوفر للمواطنين احتياجاتهم الأساسية من الغذاء وكان يأخذ معه دائماً صُرراً فيها نقود فضة في السيارة ليساعد بها من يقابلهم من المحتاجين في الطريق»(ص57،56) ويسرد الأمير سلمان قصصاً عجيبة في هذا الشأن انظر الصفحات (57- 60).
وهكذا يدلي الأمير سلمان حفظه الله بشهادته على عصر عاين ظروفه وعاش ملابساته وعاصر رجاله وقد جلى لنا تلك الأسس العامة والخطوط العريضة التي ترتكز عليها الدولة السعودية حفظ الله قادتها ووقاهم من كل مكروه وحفظ الله علماءها الأجلاء وذلك الشعب الذي يلتف حول قيادته ويقدم لها فروض الولاء ويرتبط معها بحب نوعي عميق. وأخيراً فإن الكتاب جدير بالقراءة فهو ثري بمعلوماته ممتع بقصصه وهو حافل بالحقائق الواقعية التي لا غنى عنها وخصوصاً للباحث ويكفي أنه يتمحور حول شخصية قيادية تاريخية قد لا تضاهي في سياقاتها المتعددة.
* Abdalla_2015@hotmail.com