إذا كان كثير من الأمم والشعوب يسعى إلى بلوغ مستويات أعلى من التقدم والرقي والازدهار في مختلف مناحي الحياة فيها فإن التجارب توضح أن تلك المقومات تحتاج غالبا إلى مئات السنين من عمر الأمم تبذل خلالها جهودها من أجل البحث عن منطلقات نبدأ منها لبلوغ الأهداف التي تسعى إليها، وتكون لها علاقة وثيقة بمولد أو نشأة وتوحيد هذه الدولة أو تلك. والذين يقرأون أو يستقرئون تاريخ الأمم والشعوب والمجتمعات يكتشفون أنه رغم أن نصف قرن من الزمن لا يعد شيئاً في حياة الأمم والشعوب، إلا أن هناك دولاً قلائل استطاعت خلال مدة وجيزة من مولدها أو إنشائها أو وحدة إقاليمها تحقيق مستويات عالية من التقدم والرقي والتطور مواكبة ما يشهده العالم من قفزات سريعة في شتى نواحي الحياة.
والمملكة العربية السعودية تعد واحدة من الدول القليلة التي استطاعت بناء إنسانها وتوحيد مناطقها، وتطوير كافة مجالات الحياة فيها في عقود قلائل، وإن شئنا الدقة والتحديد، فإننا نقول إن ذلك حدث عام 1351هـ الموافق 1932م ولعل ما يميز المملكة عن غيرها من دول العالم قدرتها على إحداث التوازن والمواءمة بين الأخذ بأحدث أساليب التغيير الاجتماعي الشامل وبين المحافظة على القيم الدينية الإسلامية والاجتماعية التي تأسست عليها وترسمتها في كل خططها ومشروعاتها، الأمر الذي يرى معه كثير من رجال علم السياسة والاجتماع والاقتصاد إن هذين العاملين (التنمية الاجتماعية الشاملة والمحافظة على القيم الإسلامية والاجتماعية)، قد شكلا خطين يسيران في اتجاه متواز لا يسبق فيه أحدهما الآخر ولا يتخلف عنه ولا يتجاوزه، وهو ما يعد بحق إنجازا بالغ الدقة والأهمية في حياتها؛ مما أكسبها احترام وتقدير دول العالم، إنها ملحمة تاريخية بالغة التأثير والأثر فلنستعرضها من البداية.
في أحد أيام عيد الفطر المبارك عام 1319هـ / 1901م قام شاب يملؤه الإيمان بالله الواحد الأحد ثم الطموح والرغبة في الجهاد من أجل توحيد كلمة المسلمين وإعلاء كلمة الله سبحانه وتعالى على رأس ستين رجلا ببطولة جريئة وشجاعة حقق الله له فيها النصر باستعادة عاصمة بلاده وأهم مدينة فيها (الرياض)؛ إذ دخلها في 5 شوال 1319هـ 12 كانون الثاني 1902م محققا بذلك البداية لتأسيس صرح دولة شامخة البنيان.. قوية الأساس.. موحدة الأركان يفخر أبناؤها ويسعدون بانتمائهم إليها، كان ذلك الشاب البطل هو الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - الذي بدأت انتصاراته تتلاحق منذ ذلك اليوم، واستمر جهاده أكثر من ثلاثين عاما حتى استطاع أن يقيم (المملكة العربية السعودية) معتمداً في ذلك على الله عز وجل ثم على ما وهبه الله سبحانه وتعالى من شجاعة وحكمة وفطنة ودهاء وهي خماسية ما استقرت في قلب زعيم مؤمن بما جاء في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم إلا ومكّن الله له النصر المؤزر فحقق لشعبه الأمن والأمان والرخاء والاستقرار، وفي ذلك يقول أحد المؤرخين، (إن استرجاع جلالة المغفور له الملك عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه - مدينة الرياض كان نقطة البدء ومحور الارتكاز في إنشاء الدولة العصرية الحديثة المملكة العربية السعودية، ومن الرياض انطلق الفارس الهمام الملك عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه - يوحد القبائل المشتتة ويجمع الصفوف المبعثرة ويرسي دعائم الحق والعدل والسلام والأمن والأمان، مترسما في كل ما يصدر عنه كتاب الله الكريم وسنة الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام ويرى المؤرخون أن شخصية جلالة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - بنيت على سبعة أعمدة أنشأ عليها المملكة العربية السعودية، وهي:
الدين
فقد كان الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - طوال حياته مسلماً تقيا ورعاً يتبع أوامر الشريعة بكل تفاصيلها، وكان نادراً ما يتحدث مع أحد دون أن يستشهد بآية من القرآن الكريم الذي كان يخصص نصف ساعة من اليوم لقراءته مستقياً منه فيضا من الحكمة والإلهام، ولقد جعل الدين لحياة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - هدفا بحيث كلما رسخ كيان مملكته زادت خدمته للإسلام بما كان يقوم به من أعمال.
كرمه وعفوه
فقد كان سخاؤه طبيعيا لا تكلف فيه، فكان يعطي بلا تقتير، وكان حينما يكتب الله له النصر على خصومه يحفظ لهم كرامتهم ويحيطهم بكرمه وعطفه.
قدرته على الكتمان والحفاظ على السرية
إذ كان - رحمه الله - يخفي خططه، وبذلك لم تتسرب هذه الخطط إلى خصومه.
الشجاعة
كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - من أعظم الرجال البواسل في تاريخ الجزيرة العربية الحديث، لأنه ما من إنسان قام بمثل المهمة التي قام بها دون أن يكون مقاتلاً من الدرجة الأولى، وكانت لديه إلى جانب الشجاعة صلابة هادئة لرجل يرى بوضوح الخطر المحدق في خضم الأحداث فيواجهها مواجهة صحيحة.
قدرته الفريدة على المثابرة
كان الملك عبدالعزيز - رحمه الله - إذا وضع لنفسه هدفا معينا بذل قصارى جهده للوصول إليه دون كلل ورغم أنه واجه كثيراً من الصعوبات من أجل توحيد بلاده إلا أن تلك الصعوبات لم تكن تثني عزمه عن الوصول إلى تحقيق طموحاته.
النزاهة والعدل
كان تعامل الملك عبدالعزيز - رحمه الله - مع كل إنسان يتسم بالنزاهة التامة والصراحة الكاملة، كما أن من الأمور البارزة في شخصيته أنه مهما كان الاستفزاز شديداً إلا أنه لم يسهم أبداً في القيل والقال، ولكونه متدينا مستقيما فقد كانت نظرته إلى الجريمة نظرة متشددة، وقد أمدته الشريعة الإسلامية بنظام كامل طبقه بتجرد تام، وكان أحد المبادئ الأثيرة قولته المعروفة (لا يدوم الملك بدون عدالة).
قوة العقل
إن المثل القائل: (إن الوقت المعطى للفكر أعظم توقير للوقت) يوجز بدقة مواقف الملك عبدالعزيز - رحمه الله - فقد وهبه الله عز وجل قوة ذاكرة وإدراكا وملاحظة وفطنة خارقة للعادة، وبالإضافة إلى ذلك كانت تحيط به هالة نفسانية من النبل والكرم والحكمة والسخاء والعطاء، تواكبها قامته الفارعة مما جعل له تأثيراً عميقا على كل من جلس لديه أياً كان.
ولعل سرد قصة حياة الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - لا يكتمل دون الإشارة إلى تعاطفه ودعمه وتأييده لمصالح البلدان العربية التي كانت واقعت تحت السيطرة الاستعمارية إذ ذاك وخاصة القضية الفلسطينية التي تستحق فصلا خاصاً بها؛ لأنها مرتبطة ارتباطاً لا تنفصل عراه بتاريخ العالم العربي كله خلال الجزء الأكبر من هذا القرن وكان - رحمه الله - بحكم موقعه المتميز بين رؤساء الدول العربية في عهده، عميق الصلة بقضية فلسطين، ومن الصعب أن يصف المرء اهتمامه بحقوق الشعب الفلسطيني، فقد كان على اتصال دائم ومستمر بالقادة العرب والدول الأوروبية من أجل هذه القضية، كما كان دائما يقدم النصح لحلها ويطالب الغرب باسم الفلسطينيين بإعادة الحقوق المشروعة لهم، وأصدر - رحمه الله - تصريحات شديدة اللهجة ضد الصهيونية والاستعمار، معبراً عن آرائه تجاه فلسطين ومحذرا من مغبة تجاهل حل عادل لهذه القضية، وهو ما أثبتته الأحداث إلى يومنا هذا.
وكان أهم إنجاز حضاري حققه جلالة الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - (وكل أعماله إنجازات حضارية) هو توحيد البلاد تحت اسم (المملكة العربية السعودية) وصدر بذلك مرسوم ملكي بتاريخ 21 جمادى الأولى عام 1351هـ / 19 ايلول عام 1932م وحد به جميع مناطق الدولة التي أقامها، وحينما وجد جلالة الملك عبدالعزيز - رحمه الله - هذه البلاد كان قد تصور مثلا وحياة غير المثل والحياة القبلية التي كانت قائمة من قبل، ولم يكتف بالتصور، بل نقل هذا التصور إلى واقع محسوس فحول مجتمع الجزيرة العربية من قبائل متقاتلة إلى شعب علمه معنى الاستقرار وكسب العيش الحلال، وعمل على نقله من طور البداوة والرعي والارتحال إلى طور الزراعة والاستقرار والأسرة، ونشر بين أفراده روح المعرفة وطلب العلم، واهتم بمكافحة الخرافات والبدع من معتقداته ليعيده إلى صفاء الإسلام فكان هذا العمل الضخم تبديلا لمفهومات مجتمع بأسره، ونقله من طور متخلف إلى طور جديد متقدم في طريق الحضارة البشرية.
وكان قيام المملكة العربية السعودية في الظروف التي نشأت فيها أعظم خطوة تطويرية عرفتها الجزيرة العربية في السنوات الألف الأخيرة، ولكي نضع النقاط فوق الحروف نستعرض بإيجاز وتركيز أهم ما قام به الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه -.
- قاد حركة إصلاح (ووضع نواة مجتمع جديد).
- نشر الطمأنينة ومنع الجريمة.
- ساعد حركات التحرر من الاستعمار في كل بلد عربي وإسلامي ورعاها.
- فتح الأبواب التي ظلت مغلقة أكثر من عشرة قرون ليتصل شعبه بالعالم.
- أوجد (الهجر) ليتخلص من طور البداوة المرتحلة وليحول البادية إلى مجتمعات زراعية مستقرة.
- أحل السيارة محل الجمل ليدخل الآلة إلى بلاده على أوسع نطاق كي تلحق بركب الحضارة.
- أوجد نظما حديثة مستوحاة من التعاليم الإسلامية السمحاء.
- وضع نواة نظام حكم جديد ثم طوره وأوجد نظام الوزارة ومجلس الوزراء.
- عمل للكشف عن البترول والمعادن الدفينة في المملكة.
- وضع أول نظام للعمل والعمال فسبق بذلك كثيراً من الدول الشقيقة.
- ركز أسس تعليم الشعب مجانا وتطبيبه مجانا وتقديم الدواء له مجاناً، وإدخاله المستشفيات العالمية في الحالات المستعصية مجاناً.
- عرف كيف يربح الخصوم وحافظ على الأصدقاء فربح صداقات عربية وإسلامية ودولية كثيرة لبلده.
- أسهم في تأسيس الجامعة العربية، ونادى بالتعاون العربي والتضامن الإسلامي.
- اشترك في منظمة الأمم المتحدة كعضو مؤسس وكانت له - رحمه الله - مواقف مشهودة.
في عام 1373هـ / 1963م انتقل الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - إلى رحمة الله تعالى وارتفعت روحه إلى ربها، ورددت الألسنة المؤمنة قول الحق تبارك وتعالى:
?يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً، فَادْخُلِي فِي عِبَادِي، وَادْخُلِي جَنَّتِي?.
بعد وفاة الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود - طيب الله ثراه - تسلم القيادة من بعده أبناؤه البررة الملك سعود والملك فيصل والملك خالد والملك فهد - يرحمهم الله جميعاً - ومن ثم خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز آل سعود - رعاه الله - الذين أكملوا البنيان وترسموا في كل ما أصدروه من نظم وتنظيمات خطى المؤسس الأول مستنيرين بما تمسك به من تعاليم الإسلام وقيمه الدينية والأخلاقية والاجتماعية في تعاملهم وسعيهم لرفعة شأن المملكة العربية السعودية.
fahad.a17arbi@windowslive.com