كثيرون يتساءلون: لماذا الفضاء العربي يقابِل بالرفض الثقافي قسما كبيرا من أطروحة ابن رشد؟ وبالطبع ليس المقصود هنا ابن رشد الجد وإنما الحفيد صاحب «بداية المجتهد» في الفقه،و «مختصرالمستصفى» في الأصول و «تلخيص ما بعد الطبيعة» في الفلسفة بوصفه هو لاسلفه من اشتغل في مضمار الفلسفة تأليفا وتعليما وشرحا لمفردات الفلسفة الأرسطية..
..والتحرك ضمن فضاءاتها حتى عرف بالشارح الأكبر وهو الذي أحدث جدلا واسعا وردود أفعال متصاعدة، وأضحى طرحه العقدي نقطة تجاذب محورية ومصدرا لتباين الأفهام من مصفق مادح إلى ناقد قادح وبالتالي تاهت معالم الحقيقة بين أفواه الرواة. وبطبيعة الحال فليس من شأن مقالة كهذه أن تدلف في دراسة شمولية ومفصلة للفكر الرشدي بكليته وإنما ستقتصرعلى التجلية المجملة لأبرز المآخذ التي كانت مبعث جدل في المنتج الرشدي العام وبالتالي كانت باعثا على قدر كبيرمن التحفظ في هذا المساق وسأشير إلى أبرز تلك المآخذ على النحو التالي:
أولا: التعاطي الرشدي مع بنية التشريع بحسبها تنطوي على قوالب مفهومية ذات باطن يغاير الظاهر المكشوف فالباطن محصور على الصفوة التي لا يسوغ لها بأي حال من الأحوال إفشاء ما اختصت به من أسرار يجب عدم البوح بها لطائفة الدهماء من ذلك القطاع الجماهيري العريض الذي يفكر بطريقة لا تؤهله للتناغم مع أفق الخاصة وبالتالي فهذا الزخم الجماهيري في المنظور الرشدي بما فيهم علماء الشريعة يجب أن يخاطَب بظاهر الشريعة ولا يُكشف محتوى المكنون للفرد إلا بقدر ما يحرزه من تقدم في السلم التراتبي، فكلما دنا المرء من مستوى النخبة وهم هنا الفلاسفة كلما تكشّفت له المعاني المضمرة والتأويلات الباطنية في محتوى البنية التشريعية ولذلك يقول ابن رشد مقررا تلك الفكرة الباطنية: «الشريعة قسمان: ظاهر ومؤول, والظاهر منها هو فرض الجمهور, والمؤول هو فرض العلماء, وأما الجمهور ففرضهم فيه حمله على ظاهره وترك تأويله, وأنه لا يحل للعلماء أن يفصحوا بتأويله للجمهور» (الكشف عن مناهج الأدلة ص99) وقد أشبع ابن تيمية تلك الفكرة بحثا واستغرق في تفنيد محاورها ففيّل ذلك المنحى مقزما آلياته وخصوصا في سفريه (تلبيس الجهمية) و(درء التعارض) ومؤكدا على أن أرباب التأويل الباطني «يقولون: إن الرسل كذبوا للمصلحة وهذا طريق ابن رشد الحفيد وأمثاله من الباطنية» (الفتاوى19-157).
ثانيا: الذات الرشدية تشكلت في معظمها على ضوء قسمات المنهج اليوناني على نحو حدا صوب إكراه مفردات التشريع وحمْلها قسرا لتتقاطع مع المنتج الأرسطي كما هو الحال في السفر الضخم (فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال) حيث يتجلى فيه ضرب من التفاني الرشدي المفْرط في لي أعناق المدلول والتحوير في مسارات الدلالة بغية إضفاء قدر من الشرعنة للمتبنيات المشائية وكأنها الأصل الذي ينبغي للفرع - وهو هنا معالم التشريع - أن يدر وفي فلكه!.
المفردة التشريعية هنا بفعل تلك النرجسية الثقافية تفقد سلطتها المعرفية، بل في أحايين عديدة يجري تقويضها ومصادرة فاعليتها التقنينية بفعل ذلك التأويل الذي يفتقر للمعيار الموضوعي الذي يضبط حراكه فهو تأويل يضع في حسبانه في المقام الأول سلامة الرؤية الأرسطية وضمان سلامتها من كل ما يؤوب عليها بالتقويض والسِّفرين التيميين الآنفين بسطا القول في هذا الجانب فليبحث عنه في مظانه, ولا يخفى على الباحث ذلك الهيام الرشدي بالمشائية على نحو حدا للتعاطي مع أرسطو بوصفه أكمل البشر حتى من الأنبياء حيث قال: «نحمد حمدا لاحدّ له ذاك الذي اختار هذا الرجل - أرسطو? للكمال فوضعه في أعلى درجات الفضل البشري التي لم يستطع أن يبلغها أي رجل في أي عصركان» (ابن رشد والرشدية ص71) بل ذهب ابن رشد إلى أكثرمن ذلك فنعت أرسطو بأنه ملك إلهي وليس بشراً, وهذا ما يبعث أكثر على العجب إذ كيف يُنعت رجل بهذا النعت مع أنه قد لوث جناب التوحيد, بل صادر حقيقته عبر فلسفة متخمة بضروب الخطل ومصادِمة بشكل صارخ لحقائق الاعتقاد, لكن ومع ذلك يعتقد أبو الوليد -كما يذكر ذلك الدكتور محمد عابد الجابري- أن نظر أرسطو فوق نظر جميع الناس (ابن رشد ص165).
ثالثا: قاضي قرطبة آثر القول بالبعث الروحاني والتجافي عن الاعتقاد بحقيقة المعاد المادي، بل ذهب إلى أنْأى من ذلك حيث جعل هذه القضية من القضايا القابلة للأخذ والرد والرؤية المتعددة وأن لكل فرد أن يعقد فيها ما يتوصل إليه باجتهاده ولذا يقول: «والحق في هذه المسألة أن فرض كل إنسان فيها هو ما أدى إليه نظره فيها» (الكشف عن مناهج الأدلة ص204).
يقول ابن تيمية: «ولهذا كان ابن رشد في مسألة حدوث العالم ومعاد الأبدان مُظهرا للوقف, ومسوغا للقولين وإن كان باطنه إلى قول سلفه أميل» (منهاج السنة 1-255).
رابعا: تضاؤل حصة ابن رشد من المعرفة الحديثية ووهن حظه من علوم الأثر تجلّت على نحو يكشف للباحث طرفا من بواعث الخطل في مساره الفلسفي وكثيرا ما أسقط نصوصا نبوية على وقائع فكرية ليس بينه ما أدنى تشاكل هذا فضلا عن الإستراتيجية التأويلية التي توسلها إبان التعاطي مع الآثار.
يقول الباحث الدكتور خالد علال: «ابن رشد لم يعط للسنة النبوية مكانتها اللائقة بها كمصدر أساسي للشريعة الإسلامية بعد القرآن الكريم ولم يتوسع في استخدامها في كتبه الكلامية والفلسفية ففاتته أحاديث كثيرة ذات علاقة مباشرة بكثير من المواضيع الفكرية التي تطرق إليها كما أن الأحاديث التي استخدمها في تلك المصنفات كثير منها لم يفهمه فهما صحيحا وأخضعه للتأويل التحريفي خدمة لفكره وأرسطيته» (نقد فكر الفيلسوف ابن رشد ص97).
خامسا: لا ينأى أبو الوليد متبنيا الذود عن حياض التصور الأرسطو طاليسي لمفهوم الإله وينتصر لتلك المحددات التي أطلقت على الرب جل في علاه ولا يخفى على الباحث الموقف المشائي في هذا السياق حيث الإله هنا لا يخلق ولا يفعل فهو ليس خالقا للعالم وإنما العالم أزلي صدر بالضرورة من غير إرادة من الله ولا اختيار وأنه إله يناله اللغوب وأنه ليس على كل شيء قدير. ثمة أوصاف تطلق هنا لم ينص عليها التشريع هذا من جهة ومن جهة أخرى هي ذات معاني غير مكتملة وبالتالي فلا يليق استدعاؤها بحق الخالق كالقول بأنه المحرك الذي لا يتحرك أو العقل الأول الذي لا يعقل إلا ذاته وهذا ماجعل ابن تيمية يرى أن المنهج الرشدي في باب الصفات «ينتهي إلى التعطيل المحض وإثبات وجود مطلق لا حقيقة له في الخارج غير وجود الممكنات، وهذا نفس الأمر الذي انتهى إليه الاتحاديون القائلون بالحلول ووحدة الوجود» (درء التعارض 6-238) والجابري يذكر أن الله عند ابن رشد لا داخل العالم ولا خارجه. انظر (ابن رشد194).
ومعلوم أن هذا وصف للخالق بضرب من المتناقضات التي كما يستحيل اجتماعها يستحيل ارتفاعها. ويرى جورج طرابيشي أن الله عند ابن رشد ليس مفارقا للعالم وإنما هو سارٍ فيه كالروح في جميع أجزاء العالم. انظر(وحدة العقل العربي ص261).
سادسا: قاضي قرطبة يتوقف في صفة الإرادة فلا يصرح لا بقدمها ولا بحدوثها ومن المعروف أن نوع الإرادة قديم والمحدثات الكائنة شيئا بعد شيء هي بإرادة حادثة بالإضافة إلى الصفة القديمة. أما صفة الكلام فهي منفية في التصورالرشدي. ويقول ابن تيمية في الدرء إن: «ابن رشد لم يثبت إلا مجرد العلام ويردد كثيرا آراء أصحاب الوحدة والاتحاد والحلول...وينكر أن الله كلم موسى باللفظ» ومعلوم أن هذا يتنافى مع النص القرآني «وكلم الله موسى تكليما» ويرى أبو الوليد أن الله يكلم الفلاسفة حيث يقول: «وقد يكون كلام الله مايلقيه الله إلى العلماء (يقصد الفلاسفة) الذين هم ورثة الأنبياء بوساطة البراهين» (مناهج الأدلة 162) وهو يروم بذلك أن يعلي من شأن البراهين الفلسفية وأنها من كلام الله ووحيه لسدنة الفلسفة ولاريب أن أبا الوليد قد شطح بعيدا وزل بذلك زلة كبرى.
سابعا: قوله بقدم العالم وأزلية المحدث وقد أشار ابن تيمية إلى ذلك بقوله: «والمشهور من مقالة أساطين الفلاسفة قبل أرسطو هو القول بحدوث العالم وإنما اشتهر القول بقدمه عنه (يقصد أرسطو) عن متبعيه كالفارابي وابن سينا والحفيد (ابن رشد) وأمثالهم» (الصفدية ص130)
ثامنا: قوله بأن دليل الحركة هو الطريق البرهاني وأنه طريق الخواص كأرسطو ومريديه وأنه أيضا طريق إبراهيم عليه السلام الذي يقود إلى معرفة الصانع وفي كتاب الدرء تمت مناقشة تلك القضية ببسط متناه وتنظير مفصل.
وحاصل القول: إن قراءة ابن رشد بلغة الفهم والتشخيص النائية عن لغتي التقديس والتدنيس ستفيدنا أنه مع ماينطوي عليه من نبوغ لافت ذاعت بفعله شهرته وطار صيته في الآفاق كفيلسوف وكطبيب نادر من جنسه جعله مفخرة لكل عربي إلا أنه مع ذلك وقع كنتيجة طبيعية لقصور البشر في محاذير معرفية لا يسوغ أن تقع من شخصيات استثنائية بقامة ابن رشد وبالتالي لا يليق أيضا بنا أن نقف وذلك الأثر ونستنسخ تلك التجربة أو نؤسس على ذات البنية الثقافية فنكرر إعادة إنتاج ذات المحاذير, وإنما نتعاطى مع تراثه عبر فلترة منهجية نتحامى جراءها الالتياث بما احتوته من محاذير تلفظها موازين المعرفة.