بعد ما كتبت في وقت سابق مقالاً يشير لاحتمال استغلال كراسي البحث العلمي من بعض الأكاديميين، كنتيجة لضعف ضوابط إدارة تلك الكراسي، توالت علي اتصالات كثيرة، بين مستكثر مستهجن ظني، وآخر مؤيد شاكر ذلك التنبيه، وحملت بعض تلك الاتصالات كثيرا من القصص والتجارب الشخصية، التي يستشهد بها أصحابها على توجهاتهم، وكثير من تلك القصص كانت مثيرة للاهتمام، لا لضعف مصداقيتها، ولكن لكون حدوثها مستغرباً في بيئة أكاديمية يفترض فيها سيادة لقيم التعامل السامية، فالبيئة الأكاديمية مسرح الصفوة من ذوي الفكر في المجتمع، الذين يعول عليهم في تطوير الواقع الوطني برمته، ذلك الواقع الذي نراه أملنا في تحقيق تطلعاتنا في الرقي والتقدم والتنمية، فلا شك أن البيئة الأكاديمية لأي مجتمع، هي القلب النابض بالفكر والمؤسس للمعرفة ومصنع الأجيال من الخريجين الذين يحملون على عاتقهم وضع الوطن في موضع متقدم بين الأمم.
اخترت من تلك القصص ما استيسرت استقصاءه، وتتبعت منشأه، فوجدت معظمها صحيح، ووجدت معظمها مؤسس على أخلاق وسمات لا تليق بالأكاديمي كإنسان مثقف متعلم يحمل رسالة تغير مجتمعه للأفضل، فمن تلك القصص ما أثاره منطلقات فئوية ضيقة، كالمناطقية والقبلية والمذهبية، ومنها ما هو مستثار بنوازع فردية، كالغيرة والكره والاستئثار، ومنها ما هو مدفوع بتطلعات وأطماع، مثل المحسوبية والنفاق والتملق، ومنها ما هو مدفوع بفساد في الذمة والأمانة والأخلاق. كل هذه السمات على اختلاف قيمها الأخلاقية، لا تليق بمن حمل لواء العلم، فكل هذه السمات مدمرة، ولو بقدر متفاوت للدور الذي نستطلعه لمنظومة العمل الأكاديمي، فعندما تسود هذه السمات بين من نعتقد برفعة قدرهم وعلمهم، ونحن ندفع بأبنائنا ليتحلقوا حولهم وينهلوا من قرائحهم ونحثهم للاقتداء بهم، ماذا سنجني من ذلك وتلك حالهم؟، لا شك أن الناتج من جنس البذرة، وبذرتنا هي تلك السمات يزرعها هؤلاء الأكاديميون في تربة عقول أبنائنا!، أليس الأحرى بالبيئة الأكاديمية أن تكون منطلق الإصلاح الاجتماعي بدلاً من أن تكون ممارسات البعض فيها أداة ترسيخ لعوامل تكرس التخلف والفرقة وتزرع الريبة وتضعف الأمانة، أليس من الأولى للبيئة الأكاديمية أن تخرج أجيالاً من المتعلمين المتسلحين بقيم الفضيلة والحق والإخلاص والوطنية بدلاً من أن تخرج أجيالاً من الانتهازيين لفرص الاكتساب الشخصي على حساب المهدر الوطني، والمستهترين بحقوق المجتمع، وحق الوطن، ماذا نتوقع من الأستاذ الجامعي الذي يعامل طلابه بكل صلافة وكبريا وغطرسة ويتقوى عليهم بصلاحياته المطلقة ويتحكم بمصائرهم ممتشقاً تلك القيم العتيقة، فيؤذي مشاعرهم ويشتت جهودهم ويعبث بمستقبلهم، ألا يجب أن نقول لهذا الأستاذ، على رسلك فما نلت تلك الصلاحيات إلا لمظنة الثقة بك في العدل والحق والأمانة والوطنية، فمن بلغ مرتبة الأستاذ الجامعي فلابد أن يكون قد بلغ من العلم والرشد ما يزن به بين الحق والباطل والصدق والكذب والعدل والظلم، وما انكفاء الأستاذ الجامعي على التمثل والخضوع لمعايير بالية تفرق أكثر مما تجمع، إلا نكوص وإفلاس في منظومة القيم الأكاديمية. في حين أجد في نفسي كثيراً من العتب على من يحملون أمانة نقل العلم وتهذيب الأخلاق وتمثل القدوة الحسنة ولا يؤدونها بحقها من الرعاية والتقدير، أجد في حقيقة ما يواجهونه من عنت وعناء من مؤسساتهم بعض العذر، فكثير من المؤسسات الأكاديمية، بينها جامعات وكليات ومراكز بحث، تعامل الأستاذ الجامعي بقدر ضئيل من الاحترام وقدر كبير من الجحود وانتقاص للحقوق ومعاييرها في ذلك هي ذات المعايير البالية والمقيتة، فالأستاذ الجامعي الذي لا يدور في فلك مسؤول في المؤسسة محروم ومهضوم الحقوق، فبدلاته تناقش كل يوم، ويحمل الأعباء، ويلام عن كل تقصير، ويتجرأ عليه الجميع بمن فيهم الأقل درجة ورتبة علمية، أما ذلك المحظي بذي سلطة أكاديمية، فهو الأكثر صهيلاً والأبلغ قولاً والأوفر حظاً، فالبدلات والانتدابات له تساق، والاستشارات والزيارات له تخصص، وينال من الخير ما لا يستحق بقدر أو جهد، هذا الواقع الذي يحكم بعض المؤسسات الأكاديمية، لم يكن لولا اختلال في قيادة تلك المؤسسات الأكاديمية، فكثير من قادة تلك المؤسسات، مشغول عنها بهم خاص، أو قصر في اختيار مساعدين ذوي قدرة وأمانة، فتغلب طبعهم على تطبعهم، وسادوا بما هم أكفاء فيه من الاستئثار والوصولية وحماية العرين، فتشكلت لهم البيئة التي بها يسودون، فلا هم لهم إلا الاكتساب الذاتي من السلطة والجاه والنفوذ. وأنا أضمن هذا المقال رسالة لكل ذي صلة بالواقع الأكاديمي أن يبادر ببذل طاقته في الإصلاح، فهو الغاية والمهمة في ذلك سامية، لابد أن أبين، أن لا تعميم فيما قلت، فبقدر ما هنالك من خلل، هناك حسن تصرف وإحسان، ولكن النار من مستصغر الشرر، وفساد الأخلاق مرض فتاك معدي، وإدراك واقع البيئة الأكاديمية في بعض الجامعات السعودية وإسعافها بإعادة زرع قيم العمل الأكاديمي الحقيقية واجب من واجبات صناع الوطن، وخير من يناط به ذلك، هم أصحاب المعالي والسعادة مدراء الجامعات والكليات ومراكز البحث. فالأمانة في ذلك عظيمة عظم حب الوطن والولاء له.