لعلّ القارئ يتساءل هل هناك موت حزين وموت مفرح أقول لا - الموت كله حزين، لكن هناك بعض القصص والأوجه حدثت أمامي وبعضها سمعتها من مصادرها الموثوقة للغاية وبعضها من أصحابها، تجعل قصة الموت ليست عادية بل مليئة بالحزن، وقسوتها تتخطّى ألم الموت والفراق.
الوجة الأول (عم عثمان الصومالي)
عم عثمان الصومالي ضخم الجثة ممتلىء القوام عريض الوجه قويّ البنية، كان صديقي وأحب الحديث معه وشرب الشاي منه، كان عم عثمان رجلاً من أنبل الرجال مليء بالعزة والكرم والرجولة والصدق والطيبة والشهامة، كان يعمل مستخدماً لعمل القهوة والشاي، وفي ذات يوم في مقر عمله، طلب منه مديره المتعجرف رجل الأعمال فلان بن علاّن، أن يعمل لعزيمة عنده كمية وافرة من القهوة والشاي، قام عم عثمان بعمل ما طلبه منه مديره، وفي يوم العزيمة أحضر عم عثمان ولديه اللذين يعتزان بأبيهما أشد اعتزاز، ويريانه أنه أقوى رجل بالعالم وأنبل إنسان ومهم جداً في مقر عمله، فقد كان عم عثمان دائم الأناقة.. الثوب الأبيض الناصع البياض والغترة البيضاء بدون عقال التي كانت تضفي على جمال أخلاقه منظر الرجال والعطر الرائع، وفي يوم العزيمة كانت زوجته تساعده في المطبخ أيضاً، وفجأة يزيد عدد الحضور وتنقص القهوة، فنادى رجل الأعمال عم عثمان ليعمل المزيد، فقال له عم عثمان إنّ كل المواد خلصت والسوق أقفل، فما كان من رجل الأعمال المتعجرف إلاّ أن يصفعه على وجهه أمام ولديه وزوجته، حتى طارت غترة الرجل البيضاء من فوق رأسه على الأرض، فوجه عم عثمان الأسمر تحوّل إلى أحمر من شدة الغضب المكتوم في صدره وأصفرّ من شدة الخجل من أولاده وزوجته، فبالكاد مسك دمعته، وأتى وَلَدا عم عثمان يقبّلان يديه ويلبسانه الغترة وقبّلته زوجته من رأسه، وقالت له ولا يهمك أنت تبقى تاج راسنا اتركه منه لله، فلم يتحدث عم عثمان بكلمة.. أخذ زوجته وولديه إلى المنزل، ولم يستطيع حتى أن يقود سيارته فركب سيارة أجرة، وطول الطريق لم ينطق بكلمة واحدة حتى وصل البيت، وولداه حزينان على أبيهما، فجلس على الأريكة الأرضية صامتاً ورأسه بالأرض، لا يستطيع حتى أن ينظر في وجه زوجته وولديه طوال الليل حتى غلبهم النعاس، فعندما استيقظت زوجته وجدت زوجها ممداً على الأريكة وقد فارق الحياة، فاستيقظ ولداها على صوت أمهما والتفا حول الأب يبكيان بألم وهو ملقى بينهم وزوجته تقبِّل رأسه، وتقول له عشت يا أبا محمد رجلاً ومتّ رجلاً، ودُفن بنفس اليوم حتى أنّ بعض أضراسه قد تكسر جزء منها من شدة قهره على نفسه، أما ولداه الاثنان بعد سنين شاء المولى عز وجل أن يكون واحد منهم بمركز دولي مرموق، والآخر جراح مشهور في كندا والاثنان يضعان صورة أبيهم (عم عثمان) بالغترة البيضاء بدون عقال والثوب الأبيض خلف مكاتبهم إلى يومنا هذا، وأمهم متنقلة بين هذا الابن وأخيه.
الوجه الثاني (أحمد المحكوم عليه بالإعدام)
أحمد م. ع. شاب ملتزم وتظهر عليه ملامح التقوى في مقتبل العمر بإحدى الدول العربية أتهم ظلماً وعدواناً بقضية سرقة وقتل، وفُبركت القضية لتثبت التهمة عليه بالأدلة والبصمات (لا أريد أن أدخل في تفاصيل القضية)، فحكم القاضي عليه بالإعدام شنقاً فأدخل السجن، وكان كريم الأخلاق مع زملائه لا يسمعون منه إلاّ الحمد لله، وتم تحديد يوم الإعدام وأبلغوا أهله ليودعوه، فأتت أمه وأخواه وأخواته في الصباح الباكر من يوم تنفيذ الحكم، وقد لبس بدلة حمراء، وبينما يحتضن إخوانه وأخواته قالت له أمه يا بني لقد حاولت إنقاذك لكن الفقراء لا يُسمع كلامهم ولا يُقام لهم وزن، أسأل الله أن يهون عليك، وهي غارقة في دموعها ونحيب أخواته الخافت أبكى حتى الجنود، وكان أحمد بكل عزة يخفف عليهم وهو من سيُعدم، وكان يقول لهم لا تحزنوا إني مشتاق لملاقاة ربي وهذا ما يفرحني، فوصل إلى والدته وقبّل يدها وقال لها أمي قبل أن أعدم أرضي عليّ فبدون رضاك لن يرضى الله عليّ وأنا دقائق وسأغادر هذه الحياة، فرفعت يدها وقالت أشهد الله أنّ قلبي وروحي يا فلذة كبدي قد رضوا عليك في حياتك وفي مماتك فقبّل رأسها ويديها ومن ثم احتضنها واحتضنته وسط بكاء كل من حضر، ففجأة شعرت الأم بثقل على كتفها فإذا بولدها أحمد يلفظ أنفاسه الأخيرة وهو يحتضنها ويسقط من يديها على الأرض، فنزلت الأم ووضعته على حضنها وتمسح بيدها شعره ودموعها تسقط على وجهه، وتقول له رضيت عليك يا ولدي من كل قلبي، وأخذت تدعو: ربي فقدت ولدي وفقدني ولدي فعوّضه الجنة وألهمني الصبر - وقال زميله: إنّ أحمد ليلة تنفيذ الحكم كان يصلي ويدعو ويبكي وكان يكثر من الدعاء: اللهم أمتني قبل أن ينفذوا حكم الإعدام - فضجّ السجن في ذلك اليوم، وسادت حالة من الفوضى والحزن بين الضباط والسجناء.
الوجه الثالث (الطفل حسن والسرطان)
حسن طفل في السادسة من عمره أصيب بمرض السرطان، وبدأ شعره ورموشه بالتساقط نتيجة العلاج الكيميائي، كان دائماً يسأل أمه عن سبب تساقط شعره ورموشه حتى أصبح رأسه فارغاً من الشعر تماماً، ويسأل لماذا كل هذه الأنابيب والحقن والأدوية؟ وكانت أمه تجيبه بحزن هذا عشان تصير قوي ويروح المرض عنك، هذه أنفلونزا بسيطة يا حبيبي، فكان هذا الطفل دائم السؤال عن سبب عدم ذهابه للمدرسة وعدم رؤيته أصحابه، وكان عندما يشتد الألم عليه يبكي ويطلب من أمه أن تعطيه أسبيرين، فكان قلب والديه يتمزق وهم يروه يتألم ولا يستطيعون فعل شىء، وكان يسأل أمه لماذا والده يبكي عندما يراه، وعندما اشتد عليه المرض كان حسن على سرير المرض ويمسك بيد أمه، وأكد الأطباء بأنه في المراحل الأخيرة وتم إعادته لمنزله، فكان الألم يشتد عليه ويدخل في نوم لنصف ساعة ومن ثم يفيق ماسكاً يد أمه وهي بجانبه على السرير، وأبوه لا يقترب ينظر له من باب الغرفة فقط، فكان يخاف الأب أن يفقد نفسه ويجهش بالبكاء أمام طفله، وكان حسن يقول لأمه إنه يشعر بتنميل في يديه وقدميه، ولم يكن يعلم أنها لحظات الاحتضار، فكأنّ الطفل حسن كان يشعر أنه مقبل على تغير كبير، ولم يكن يعلم أنه مقبل على مفارقة الحياة، فبدأ جسمه يرتعش ونفسه يضيق وكان يقول لأمه (ماما أنا خايف) حتى فارق الحياة وهو ممسك بيد والدته، فهاهي الأم قد بحلقت عيونها بابنها دون أن تذرف دمعة وتشهق من شدة الحزن، فما أن سمع الأب شهيق والدة حسن حتى أيقن أنّ ولده توفى، فهاهو يمشي بالبيت يميناً ويساراً لا يعلم أين يذهب ويبكي بكاء كالأطفال حتى يدخل غرفة ولده ويحتضن زوجته ببكاء شديد، ثم يقومان بصلاة ركعتين وولدهم ممد على السرير راضيان بقضاء الله وقدره
الوجه الرابع (الإخوة الثلاثة)
(خالد وعمر وعلي) ثلاثة إخوة شباب يدل مظهرهم على التقوى تجمعهم الطيبة الشديدة، يقدمون الخير للجميع وبعيدون كل البعد عن المشاكل والمخاصمات حتى لو اعتدى عليهم أحد لقاموا بالاعتذار له، حيث حدث أنّ أحد السائقين تلفّظ عليهم بشتم فما كان من الإخوة الثلاثة إلاّ أن قالوا له: سامحك الله وهداك يا أخانا.
فهذا يدل على رقي تربيتهم وأخلاقهم الإسلامية الرائعة.. في أحد أيام رمضان كان الثلاثة مع والدتهم بعد صلاة الظهر وكان أبوهم يمازحهم بقوله بأنه لم يعد مهماً عندهم أمهم فقط، فيقبّلون رأسه ويقولون له نحن جنودك المخلصون فالأب لواء متقاعد، ومن ثم طلبت والدتهم بإحضار بعض المأكولات فذهب الثلاثة بسيارة واحدة، وإذا بسيارة مسرعة كالصاروخ تتجاوز الإشارة الحمراء وترتطم بهم ما أدى إلى شطر السيارة إلى عدة أجزاء وتوفي الإخوة الثلاثة على الفور، وتوفي سائق السيارة المتهور رحمهم الله جميعاً، فإذا بالأم تقول لوالدهم الأولاد تأخروا يا أبو خالد وقلبي مثل النار عليهم وإذ بهاتف والدهم يرن ويلقى اتصالاً من مدير شرطة القسم الفلاني يطلب منه حضوره فيهرع الأب إلى المخفر وقلبه يدق ألف مرة، وهو متيقن أنّ مكروهاً ما حدث لأبنائه، وهو يعلم أنّ أبناءه طيبون ليسوا من أصحاب المشاكل، فيصل الأب إلى مدير المخفر فيهدئ باله ويأخذه بسيارته الخاصة إلى المستشفى، فالأب يحاول أن يقنع نفسه بأنّ الأولاد متأذّون فقط ولكن في قرارة نفسه متيقّن أنهم توفوا، فيصل إلى المستشفى ليرى جثامين أولاده الثلاثة ممدة على الأسرّة مضرحين بالدماء وجزء من أجسادهم ممزق فينظر لهم واضعاً يده فوق رأسه، ويقول يا ويلي الثلاثة راحوا مني دفعة واحدة كيف سأتحمل هذا؟ وهو يبكي وكيف أبلغ أمهم؟ وكيف أعيش بدونهم؟ ولمن أعيش؟ ثم يرفع يديه أمام الجميع ويدعو: ربي إنّ أبنائي ماتوا بحادث وهم صائمون فهم ياربي في ذمتك فتقبّلهم شهداء، ربي إني رضيت بقضائك فأرض أولادي بالجنة واجمعني معهم ربي أني أودعتك إياهم، وامتلأ المستشفى بأقاربهم وأصرّ الأب أن يذهب لأمهم بنفسه فوصل إليها وركبت معه بالسيارة وطوال الطريق تقول له طمنّي يا أبو خالد، حتى وصلا إلى بوابة المستشفى وقال لها إن الأمانة هي أثمن حق يجب أن يؤدى فقالت له الأم نعم وما شأن هذا بالموضوع، فقال لها صبراً يا أم خالد لو أنّ معاك أمانة هل تغضبي لو استردها المؤمن، قالت طبعاً لا هذا حق، فقال لها: لو عندك ثلاثة أمانات هل ترديها إلى من أمنك عليهم فصرخت بصوت عم أرجاء المستشفى الأولاد.. الأولاد، وصارت تركض وهي كبيرة بالسن نوعاً ما فوجدت أقاربها قد ملأوا أروقة المستشفى فزاد صراخها ومن ثم دخلت إلى غرفتهم فرأتهم على الأسرّة وشرعت في حضنهم وتقبيلهم وهي تبكي بألم وحرقة شديدين، ثم قالت «يا أبو خالد الأولاد نايمين صحيهم خليهم يفطروا معنا ثم تغطي واحداً تلو الآخر وتقول لهم ناموا وسوف أيقظكم قبل المغرب»، في المقبرة أصرّ الأب أن يدفن أبناءه الثلاثة بيده فدفنهم جميعاً، وكان يقبّل كل ابن قبل أن يضع التراب عليه، وما أن انتهى من دفنهم حتى سقط مغشياً عليه، الأم حتى يومنا هذا تهز رأسها يميناً وشمالاً وما أن تسألها كيف حالك فتجاوبك (خالد وعمر وعلي) وتذرف دموعها، «ماذا تحبين أن تأكلين، فتقول (خالد وعمر وعلي) أفطروا ولا لسه صايمين»، ولا تأكل شيئاً حتى تقنعها بأنّ أولادها سوف يزعلون لو لم تأكل، وكل يوم تنام بغرفة أحدهم وتستمر بالقول اشتقت لحبايبي، والمحزن أنها على طاولة الطعام تصرّ أن تضع صحون أبنائها، وحتى هذا اليوم تغسل ملابسهم وتكويها وتصنع أكلاتهم المفضلة، وفي كل عيد تبكي بشدة هي وزوجها عند سماعهما الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا، وتقول وينكم يا حبايبي تعيّدوا معي؟.. رحمهم الله جميعاً.
الوجه الخامس (الرجل الفقير)
رجل فقير عنده ولدان وابنة يعمل عاملاً في أحد المصانع داهمه مرض الفشل الكلوي، وطبعاً نظراً للارتفاع الباهظ في تكلفة العلاج عجز عن تلقّي العلاج المناسب، تم الاستغناء عنه في المصنع لتغيّبه المتكرر والطويل وهذا للأسف أصبح طبيعياً، فالعامل الإنساني معدوم، أما أولاده وبناته فهم يحترقون من أجل والدهم الذي يرونه يتألم ولا يستطيعون فعل أي شيء، وفي أحد الليالي بينما هو على سريره نادى زوجته وأولاده وبناته فاجتمعوا عنده وقال لهم: يا أم فلان يا أولادي وبناتي إني مفارقكم الليلة، ودموعه تنهمر وسط بكاء زوجته وأولاده وبناته، وقال لهم ما أصعب على الإنسان أن يودع أهله للفراق الأبدي والله إنّ الموت أهون عليّ من قلقي عليكم فأنا أترككم بلا إرث ولا مال ولا عقار في مواجهة حياة قاسية، وأبنائي وبناتي مازالوا صغاراً وأنتِ يا أم فلان أشهد الله أنك تحمّلت فقري وعصبيتي وكنتِ خير امرأة وقفت معي بفرحي وحزني، أوصيكم بأن تبقوا عصبة واحدة ولا تتركوا أمكم واتقوا الله في كل أموركم وسامحوني يا أبنائي فلم أترك لكم ما يؤمن حياتكم عن المهانة، فقالت له زوجته: يا أبا فلان شدة وتزول وأنت ستعود أقوى من قبل إن شاء الله، فقال لها: لا أظن ذلك فقد دنا أجلي وحانت ساعتي والفقراء أمثالنا لا تبكي الناس عليهم، فالناس لا يبكون إلاّ على الأغنياء ولا تهتم الناس بشؤون الفقراء عاشوا أو ماتوا ... يا أسرتي سيرحل معيلكم وقلبه قلق عليكم، ثم طلب أن يدعوه ينام فتركوه ليعودوا إليه ليجدوا سبّابته ترتفع بشهادة لا اله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله ويشهق ويبحلق بنظره للأعلى ويفارق الحياة، فتبكي زوجته وتقول: أين تركتني يا أبا فلان أنا وهؤلاء الأطفال، وترفع يدها إلى السماء لتدعو: ربي ألطف بحالنا وأغننا عن العالم أجمعين واجعل الناس بحاجتنا ولا تجعلنا بحاجتهم، ربي استرني أنا وأطفالي ربي إني أرعى أيتاماً فارعنا بعينك التي لا تنام، وكانت الزوجة ترتعش خوفاً من مواجهة هذه الحياة القاسية وفكرها بأولادها أنساها حتى حزنها على زوجها الحبيب، بعد ذلك عملت الزوجة، تارة خادمة وتارة منظفة في المستشفى وتارة بائعة جوالة وسجلت اسمها في الشؤون الاجتماعية، وكانت تحرص على أطفالها أن يكملوا دراستهم وبقيت تعمل حتى أنهوا دراستهم الجامعية بل وكان الأبناء يعملون إلى جانب والدتهم في الخدمة حتى عمل أحدهم في شركة أمريكية واكتشفوا موهبته وقاموا بدعمه وافتتح شركة صغيرة وإخوانه متخصصة بالأدوية إلى أن أكرمهم الله وأصبحت من كبرى الشركات في العالم العربي وقاموا بافتتاح مركز غسيل كلوي مجاني، حتى أن الجميع صار يلجأ إليهم، فالله سبحانه وتعالى استجاب دعوة الأم المسكينة وأصبحوا شركة يشار إليها وأسموها شركة أبناء فلان القابضة وصورة أبيهم في مقدمة الشركة وهي معروفة للغاية في العالم العربي، والجميل أنّ والدتهم افتتحت مركزاً لرعاية الأيتام والأرامل جزاهم الله خيراً.
fthahabi@prandmedia.org