يؤكد علماء التربية والاجتماع أن الإنسان مخلوق اجتماعي بمعنى أنه ينشأ في جماعة ولا يستغني عن العيش في جماعة حيث لا يمكنه أن يوفي كل حاجته في الحياة بمفرده وهو بعيد عن المجتمع فليس باستطاعته أن يوفر طعامه وشرابه ومسكنه وتعليمه ومواصلاته ووسائل صحته وأمنه وسلامته بمفرده، ولن يتم هذا إلا بمعيشته في مجتمع يؤدي فيه كل عضو من أعضائه مسؤولياته وواجباته، ومن هنا تنشأ العلاقات بين الناس وتتطور، بل وتتكون لدينا من هذه العلاقات نماذج يكون منها الحسن الجيد الذي يقتدى به والمشين السيئ الذي يُضرب مثلا في سلوك البشر السلبي في هذه الحياة.
|
وتشهد حياتنا العديد من نماذج العلاقات الطيبة والإيجابية بين الناس والتي تمثل الصداقة الحقة التي تزهو بها حياة البشر وهي تلك العلاقة الحميمة التي تقوم بين بعض الناس وتكون ثمارها يانعة ناضجة حيث يسعى كل طرف في هذه الصداقة القوية نحو صديقه بكل ما هو خير وبكل ما فيه سعادته وإسعاده، يجمع بينهما الخير والود والتضامن والصراحة، والنجدة والعون، والصدق والصراحة والمشاعر السامية والسلوك الحسن، وفي مثل هذا المناخ الداعم للصداقة والحافز عليها تنمو العلاقات وتتوطد الصلات وتقوى المجتمعات، وتنمو وتزدهر جوانب الحياة المتعددة فيها.
|
ولذلك رفع الإسلام شأن هذا النموذج من الصداقات وحرص على إقامة الصداقات على أسس راسخة متينة من السلوك القويم والمستوى الرفيع منها، وبشر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من يُقيمون علاقاتهم وصداقاتهم في الله بأنهم من السبعة الذين يظلهم الله يوم القيامة في ظله يوم لا ظل إلا ظله حيث جاء فيهم (ورجلان تحابا في الله، اجتماعا عليه وتفرقا عليه) وهل هناك مرتبة أسمى من ذلك تكون نتيجة للصداقات الحقيقية البريئة؟ لقد أكدت السنة المطهرة هذه النتيجة الغالية للصداقة في أكثر من موقع وفي عديد من المناسبات، ويكفي أصحاب هذه النماذج من الصداقة شرفاً وبُشرى ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه رب العزة سبحانه قال: (لقد حقت محبتي للذين يتحابون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتزاورون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتباذلون من أجلي، وقد حقت محبتي للذين يتصادقون من أجلي) رواه أحمد والطبراني..
|
وهذا هو حال الصداقة إذا كانت خالصة لوجه الله تعالى فهل يشهد واقعنا المعاصر بنمو هذه النماذج أو اضمحلالها؟
|
سؤال لو وجهته لنفسك أولا وحاولت الإجابة عليه فإنك ستنضم إلى قائمة الشاكين مما آلت إليه الصداقات في عصرنا أو في أيامنا، فما مِنْ منتدى يجمعنا أو لقاء يضمنا إلا وسمعنا الشكاوى تتوالى، والبكاء على الماضي يتزايد، والنماذج التي تهاوت فيها الصداقات تتكاثر، وأصبحت الكلمة التي تتردد على الألسنة أن الصداقات هي صداقات مصالح ليس إلا، ولذلك صارت هشة الأركان تنتهي بانتهاء المصالح فلا يعود لها مكان، ولا يستمر لها زمان ولا يقوم لها في عالم الصداقات أي بنيان.
|
لقد صارت هذه النماذج الهشة تسود علاقاتنا الاجتماعية بعد أن انكمشت الصداقات القوية المتينة وانخفض تعدادها حتى صارت ضرباً من المستحيلات التي قيل فيها (رابع المستحيلات هو الخل الوفي) الذي يحفظ عهد صاحبه، ويقيم وزناً وشأنا لصداقته مدى الحياة، فقد عمَّ العلاقات بين الناس حالة من الاضطراب في السلوك المبني على التمسك بالمصلحة المطلقة، فتحولت الصداقات إلى مصالح شخصية ارتبطت بمكونات الشخصية الإنسانية، وتحكمت فيها عوامل النفس وما أدراك ما النفس التي تحرك صاحبها نحو نزعات الخير إن صلحت أو طرق الشر إن جانبها الصواب، ومكونات النفس البشرية يصعب اكتشافها أو التنبؤ بها، ولذلك فقد نبه الحكماء الناس إلى أهمية التجربة قبل إقامة الصداقات وقبل الوقوع في دائرة الحسرة أو الندم التي نراها في وجوه الكثيرين الذين خانهم الصديق أو من ظنوا أنه صديق فقال بعضهم:
|
جرِّب صديقك قبل أن تحتاجه |
إن الصديق يكون بعد تجارب |
فالصحب حولك يُظهرون بأنهم |
الأوفياء لأجل نيل مآرب |
أما صداقات اللسان فإنها |
مثل السراب ومثل حلم كاذب |
|
وكيل الوزارة بوزارة الثقافة والإعلام سابقاً |
|
|