كتبت قبل أسابيع قليلة مقالتين عن التوتر في سوق العمل المحلي بين الشباب العاطل والعمالة الوافدة، مع بعض المرور العارض فقط على بعض المشاكل الأخلاقية التي وفدت إلينا مع الملايين من العازبين والعازبات، وأترك تصور ضخامة هذه المشكلة أخلاقياً وصحياً واجتماعياً لسعة أفق القارئ وقدرته على الاستنتاج المنطقي.
إحدى المقالتين كانت بعنوان (أسراب الجراد في كل مكان) والأخرى بعنوان (لا مجال للمنافسة).. وردتني ردود كثيرة بعضها من مواطنين وأخرى من ضيوفنا في سوق العمل. كان الطابع العام فيها هو القلق المشترك لدى الطرفين لكن لأسباب مختلفة وباتجاهين متعاكسين. بعض الردود وصل إلى درجة الادعاء الصريح بأن اليد العاملة الوافدة تستحق كل ما تصل إليه بصرف النظر عن الأساليب بادعاء أن المواطن السعودي جشع وكسول، وليس له أيّ دور في التطور الحاصل في بلده، هكذا وبدون التعرض بالموافقة أو الاعتراض على النواحي الأخلاقية والمنافسة غير الشريفة لا جزئياً ولا على الإطلاق، وكأنها مجرد ادعاءات عنصرية لا أساس لها. كانت هناك أيضاً بعض الردود من مواطنين حانقين يصبون إحباطاتهم على جنسيات بعينها نظراً لتجارب شخصية، وذلك لا يعبر عن نظرة عامة للمشكلة. لكن يبقى في النهاية مصدر الإحباط المعبر عنه هو الشعور بالغبن والمرارة، لأن الحاصل في سوق العمل هو ضرب تحت الحزام من قبل الوافدين على المواطنين الباحثين عن العمل، خصوصاً في السوق التجاري المفتوح. من أبسط الأساليب لهذا النوع من الضرب تحت الحزام، التكتل والتحشد والتهديد للسيطرة على السوق، ليس فقط بين الوافد والسعودي، وإنما أيضاً بين الوافد من جنسية والآخر من جنسية أخرى، يعني مافيات قومية على عينك يا تاجر ويا مشتري.
إذاً ما دامت الأمور تشي بهذا القدر من الاحتقان فلابد من محاولة تفكيك الإشكال بطريقة واضحة للطرفين:
1 - مواطن محبط يشعر بأنه محاصر ومطارد في سوق العمل من قبل عمالة تستطيع الاستمرار على مدار الساعة في مكان العمل لأنها تعيش هنا فقط للكسب ولا تحتاج إلى اقتطاع جزء من وقتها للأسرة والواجبات الاجتماعية. المواطن يشعر أيضاً أن وراء هذه العمالة منتفع سعودي انتهازي ضعيف نفس وناقص الغيرة الوطنية.
2 - وافد يشعر بأن البلد لا يستطيع الاستغناء عن خدماته لأن مواطنه الأصلي غبي وكسول ومدلل وجشع، ولذلك فهو أي الوافد أحق بالثروة تعويضاً له عن غربته وقسوة الحياة في هذه البلاد واستغلال الكفيل له، وفي سبيل تحقيق ذلك تحل له كل المحرمات وخصوصاً أن المنافسة شرسة وتتشارك فيها كل جنسيات العالم على الأرض السعودية.
3 - سوق عمال مكتظ بالفرص لكنه في حالة فوضى وبلا ضوابط سوى على الورق ويشبه حارة غوار الطوشة كل من إيده إله.
4 - قطاع عمل حكومي بيرقراطي متسيب وانتفاعي وقطاع عمل خاص رأسمالي ونهم، وكلاهما يبحث عن الاستفادة القصوى من العمالة والسيطرة عليها أثناء وخارج ساعات العمل والحصول على خدماتها في كل الظروف العامة والخاصة بدون تذمر أو مطالبة بحقوق ووجع دماغ.
5 - غياب واضح للمعلومات الدقيقة عن المستثمرين المحليين والأجانب، أي رؤوس أموالهم ومجالات التخصص في أعمالهم وعدد جنسيات عمالتهم والأعداد الحقيقية لأماكن العمل لديهم ونسبة كل جنسية من العمالة فيها وأرباحهم ونسبة الأموال المرحلة إلى الخارج إلى آخرة، ولا شك أن غياب الأرقام والمعلومات يجعل التخلص من العمالة الوطنية أو توظيفها صورياً سهلاً وميسوراً.
6 - بطالة محلية كبيرة وأعداد هائلة من الشباب من الجنسين لا ترى لها مستقبلاً مهما حاولت تقليب الأمور على وجوهها ولا تدري حالياً ما تفعل، لكنها تخاف مما قد تضطر إلى فعله في المستقبل.
هذه التركيبة الخطيرة في أوضاع سوق العمل تحتاج لتصحيحها إلى أدمغة ضليعة في علوم الاقتصاد والاجتماع والأسرة والتربية وعلوم الجريمة والتفكك الاجتماعي وخطر انكفاء الميزان الوطني عدداً وعدة لصالح العنصر الأجنبي، وتحتاج فوق ذلك إلى صرامة إدارية حديدية لا تأخذها في خدمتها الوطنية لومة لائم.
وبعد: إذا كان في ظل هذه الأوضاع يستطيع أي عامل وافد من أي جنسية أن يتهم البلاد التي استضافته بالعنصرية والكسل والجشع فبإمكانة الاستغناء عن العيش فيها في أقرب فرصة مشكوراً.