الفهم الحقيقي للحياة يعني ألاّ تكتفي بالتنفس والشرب والأكل والتهجُّد، وإنما أن تطوِّر بفكرك وجهدك الذاتي وسائل الحياة والبقاء والتعمير في بيئتك الصحراوية. الآخرون الذين ليس لديهم شموس تقارن بشمسك ابتكروا الخلايا الشمسية للطاقة، والذين ليس لديهم مثل رياحك العاصفة ركبوا مراوح طحن الحبوب وسحب المياه وتوليد الكهرباء على الرياح، فلماذا لم تبتكرها أنت قبلهم وقد كنت بالأمس في أمسّ الحاجة لذلك أكثر منهم وتعلم أنك سوف تعود يوماً ما كذلك.
لن يبدأ الآخرون باعتبارك على قيد الحياة واحترامك حتى تبرهن لهم أنك ما زلت حياً بما تقدمه للحياة من أفكار وإضافات إيجابية، وليس بمحاولة إقناعهم بالضجيج والصراخ بأنك كنت حياً فيما مضى من الزمان.
فهم المعنى الحقيقي للحياة يتطلّب التفكير فيها بعقل مفتوح وهدوء نفسي وتفاهم اجتماعي شامل على القيام بذلك. محاولات التشويش والإزعاج من عقليات ثبت مراراً خطؤها وخطرها، حتى أوصلتنا إلى ما نحن فيه بين الأمم يجعل فهم المعنى الحقيقي للحياة مستحيلاً، والفهم العدمي المحتقر للحياة هو المفهوم السائد والمقبول.
من أهداف التفكير بعقل منفتح وهادئ تحسين ظروف الحياة للبشر حتى لا يتقاتلوا بوحشية على فرص البقاء أو يتزاحموا بأنانية على الكماليات. لا ينفع الناس ولا يغير في طبائعهم الغريزية أن يذكرهم أحد ليل نهار ببؤس وتفاهة الدنيا الفانية ليقنعهم بتحمُّل واقعهم الذي هم فيه وبالاستمرار فيما هم عليه، خصوصاً إذا كانوا يرون ويشمون ما يرفل فيه محدثهم من حبور وعطور دنيوية. خير من الكلام البليغ الذي لا يسد رمق جائع ولا يكسو عارياً، أن يتشارك الناس في التفكير بهدوء وبعقول مفتوحة في إيجاد وسائل وآليات لتحقيق ظروف معيشية أفضل تتسع للجميع، مثلما تفعل الأمم والشعوب الأخرى بوسائلها الذاتية.
هل هذه دعوة للتوجُّه نحو الحياة الدنيا والانصراف عن العمل والاستعداد للحياة الآخرة؟. بالطبع لا، ولن يريد أن يفهم الأمر هكذا سوى من يخاف على امتيازات دنيوية ربما لا يستحقها، من نتائج التفكير العميق في المعنى الحقيقي للحياة. مهم أن يدرك أصحاب العقول المرتابة أنّ الطريق إلى السعادة الأخروية يتطلّب اطمئناناً نفسياً ومعيشياً في الحياة الدنيا، لأنّ الحرمان بطبعه مجرم وكافر ويفتح أوسع الطرق إلى المعاصي والجرائم بأنواعها، وفي ذلك خراب الدنيا والآخرة.
باختصار، فهم معنى الحياة يتطلّب العمل بجد وفكر منفتح لتحسين ظروف الحياة الدنيا، لأنّ ذلك يفتح للإنسان أبواب الرضا والتقوى والشكر لله تعالى على نعمة التمتع بجميع مواصفات الأمان الاجتماعي المشترك، وينقي الأنفس من التحاسد والأحقاد.
من هذا المفهوم نستطيع أن نستنتج مثلاً أنّ فهم معنى الحياة يتطلّب التفكير بعمق ومثابرة في استكشاف وتجريب الوسائل التي تجعل الصحراء الجافة أكثر قبولاً للحياة. هذا الفهم يتنافر ويتضاد مع الاعتماد البليد على أحدث وأغلى وسائل التبريد والتكييف التي تخترعها وتبيعها لنا أمم ليس عندها من حرارة الطقس عُشر ما عندنا في صحرائنا الجافة الحارقة. فهم المعنى الحقيقي للحياة يعني أيضاً أن تفكر أنت مثلاً في تطوير وسائلك وآلياتك الخاصة برصد المواقع والأماكن والثروات التي تهمك في جغرافيتك الوطنية على الأقل، وليس أن تتفاخر بتلفيق برنامج لتحديد القبلة وهو يعمل على برمجيات الآخرين وأقمارهم التي ترصد الكون كله، بينما يعرف كل طفل صحراوي وجهة القبلة التي يولي شطرها وجهه دونما حاجة إلى برنامجك الملفق من اختراعات الآخرين. أن تنطلق إلى إبلك وأغنامك في الصحراء المفتوحة على هدي جهاز (جي بي اس) الذي ابتعته من سوق الإلكترونيات في شارع إبليس، يعني شيئاً أدنى بكثير من أن يصبح لك من منجزاتك الفكرية أجهزتك الخاصة التي تهتدي بها للقبلة والسفر، والوصول إلى أغنامك المتناثرة في الفيافي والقفار.
فهم الحياة بالطريقة الإيجابية يعني دون لف أو دوران، استخدام الفكر والعقل والعلم على هدي الوحي السماوي، للوصول للطريق القويم إلى عبادة الله، والتمتع بنعمه واجتناب نواهيه دون ترهيب وتخويف من الإبداع والابتداع أو إكراه لشخص، على أن يكون نسخة طبق الأصل من شخص آخر يصادر حقه في حرية التأمُّل والتفكير التي وهبها الله له عندما خلقه وقال له: (قْرَأْ).