ديباجة شائكة:
على مشارف عيد الفطر ينفطر قلب المواطن العربي على الحالة العربية المعقدة دون أن يعبأ هو نفسه بأن يعير تفطره أي اهتمام.
فلماذا... لماذا بلغ بنا الحال أن لم يعد لجرح بنا إيلام. أزعم كزعم زرقاء اليمامة الذي لم يصدقه قومها, مع الفارق بين حدة بصرها وقذى عيني بأنه قد يكون ل»خدرنا غير اللذيذ» عدد من الأسباب (قد يكون من بينها كما تقول «التقارير الدولية» الفقر والبطالة والمناخ الخليجي الساخن). غير أنني لا أزعم بمعرفة أي منها ولو تقريبيا. كما أنني لا أزعم بأن أي من تلك الأسباب تستطيع أن تبرر حالة «تلبد الرؤية» و»تبلد الحس الجماعي والفردي» التي بلغناها عربيا اليوم, كما لا تستطيع أن تبرأنا منها..
من الواضح أن الموضوع لم يعد احتلال ومقاومة بالشكل التقليدي لخمسينيات القرن الماضي وليس دكتاتوريات وانقلابات عسكرية كالتي عرفها عقد الستينيات. ومن الواضح أن الموضوع لم يعد في المسار الإعلامي والاستسلامي ذلك الموقف المبدئي القديم برفض التوطين غير الشرعي «للعدو الصهيوني» على أرض عربية و رفض الاحتلال الاستيطاني لفلسطين واقتلاع شعبها وتقتيل أطفال يقاومون دبابة بحجر. إلا أن غير الواضح هو أن انطواء تلك الصفحة ب»لاءاتها» الواضحة قد حل محله مواجهة غاية في الغموض والتعقيد صار من الصعب معها على المواطن العربي أن يقول للعدو عدوا أو أن يرى في الأخ غير غريب. وصار ليس للمواطن إلا أن يقلب الشاشة على مشهد أقل عبثا وهو يسمع من يُسمي «المعتدي المحتل» ب»الجار القريب».
وهذه الحالة الضبابية لواقع العرب السياسي اليوم ليست في زعمي حكرا على القيادات العربية التي ليس من الصعب معرفة مواقفها الواقعة بين مطرقة مصالحها ومصالح دولها وسندان الترهيب والترغيب الدولي, ولكن وهذا الأشد مرارة أنها حالة تستشري عاما تلوى آخر وخاصة بعد حرب الخليج الثانية 1990م وبوتيرة متسارعة بعد 11 سبتمبر2001م على مستوى المواطنين عامة وعلى مستوى الكتاب بل والمفكرين العرب إن كان لا يزال هناك من ينطبق عليه مثل هذا المسمى الأخير في هذه اللحظة التي يكاد يغيب عنها تماما أفق التفكير العربي ناهيك عن التفكير النقدي العربي.
لذا لا أستبعد أن الكثير من القراء إلا القليل منهم سيضحك من (مقال يتحدث عن الواقع السياسي في بعده العربي بعد أن كادت أن تتلاشى مثل هذه الأطروحات)، إلى أن يستلقي على ظهره إن كان قد ظل منا بعد من لم يستلقي طواعا أو مجاراة إلى أجل غير مسمى لريثما يمر موكب التفتفت العربي بألوانه القبلية والطائفية والقطرية أو على الأقل إلى أن يخلق الله إنسانا عربيا جديدا يستطيع أن يميز رأسه من قدميه ويستطيع استعادة حق الوقوف مرة أخرى ولو من باب شرف المحاولة.
عقد التشظي
أين ذهب كتاب الرأي السياسي والفكر النقدي الاستشرافي لواقعنا السياسي العربي هل لم يبقى من ذلك الجيل أحياء وماذا عن الأجيال الجديدة أو أن الرأي لا يكون إذا جرى توزيع الهواء في قوارير مؤقتة بالأزمات وإذا اختلطت الأوراق وتحطمت البوصلة وغاضت الأرض بأبسط المبادئ الإنسانية والأخلاق.
من اللافت أنه رغم طوفان مقالات الرأي الذي اندلع عبر الفضاء الإلكتروني الجديد والمجال الورقي القديم في العالم العربي طوال العقد الأول من القرن الواحد والعشرين وبتزامن مع أحداثه التحولية المثيرة, فإنه نادراً ما يجد القارئ رأيا يدعو للتفكير خارج شرنقة الأوضاع الداخلية لهذا البلد أو ذاك.
وعلى أهمية فرز الأوليات في العلاقة بين الواقع المحلي لكل دولة عربية والواقع العربي العام إلا أن هناك فارقاً بين «المركزية الوطنية» إن صح التعبير وبين «نزعات الانعزال». هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن توجه التركيز على التناول الصرف لأوضاع الداخل وإن جاء بسقف أعلى قليلا من المعتاد سمح بمشاركة عدد من أطراف الرأي السياسي الناشطة محليا في مختلف الدول العربية، فإنه لم يتسم بطروحات جذرية. وفي هذا فقد اقتصرت أغلب طروحاته على تناول ما أصبح مكررا من أحاديث تدور حول «تيمات محدودة « بشكل تبسيطي غير مؤسسي وغير فعال (لا على مستوى المجتمع المدني ولا على مستوى الأنظمة السياسية) عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة ووعود الإصلاح في دول المنطقة من منظور مؤجل, وكأن الكلام في تلك التيمات لمجرد تجميل الأفواه أو إشغالها.
والملاحظ أنه يتساوى في مثل هذا الطرح المراوح المقتصر في جله على القضايا الداخلية المحضة طيف واسع من المحسوبين على توجهات الليبرالية العلمانية أو الإسلامية السياسية وما بينهما وسواههما من أجنحة الرأي أو العمل السياسي في هذا البلد العربي أو ذاك. والأدهى أن ذلك يجري في محاولة واضحة من كل طرف منها أن يجر البساط من تحت رجل الآخر ليجد له موقع قدم متصالح أو على الأقل غير متصادم مع السلطة الرسمية في حلتها الجديدة التي حملتها أول رياح الألفية الثالثة.
بين المركزية الوطنية والفجوة العربية
ومشكلة هذه الطروحات ليست في حالة محاولة التصالح الناشئة بينها وبين النظام السياسي لكل بلد من بلدانها بما يبدو أنه يولد من رحم «نزعة تمركز» كل بلد عربي على نفسه في معزل عن المجرى العربي العام وقضاياه الملحة. فمثل هذه المصالحة هي عمل وطني مطلوب بين الأطراف المختلفة فيما بينها داخل كل بلد عربي طالما كانت هناك رؤية وإطار وميثاق شرف وتصور مرحلي وآخر استراتيجي لمثل هذه المصالحة على مستوى داخلي بما يمكن أن يجعلها رافدا من روافد الواقع السياسي على مستوى عربي عام ولكن المشكلة تكمن في مركب الإشكاليات التي تتعلق بها, وبمجمل الطروحات الداخلية التي تواجدت على ساحة الرأي السياسي في هذا البلد العربي أو ذاك خلال هذا العقد:
1- هناك إشكالية غياب إن لم يكن إلغاء البعد العربي في مواقف معظم الأطراف المعنية على اختلاف مشاربها السياسية من طروحات الرأي التي يقدمها كل منهم على مستوى محلي في كل بلد عربي على حدة. وهذا ما يلمسه القارئ بأصابعه العشرة في تراجع الاهتمام التحليلي بل والموقفي والمطلبي أيضا من القضايا ذات البعد أو العمق العربي سوى اهتمامات لحظية وحين تفرض فداحة الحدث فرضا الخروج على موقف الابتعاد عن القضايا, كبداية احتلال العراق، وكالحرب الإسرائيلية على لبنان وكذروة الانقسام الفلسطيني وإطباق الحصار الخانق على غزة,. أما فيما عدا ذلك فيكاد الموقف يكون فك ارتباط تام. وهذا مقتل الفرس وليس مربطه وحسب في طروحات الفكر والرأي الإصلاحية والتصالحية على مستوى الانتلجنسيا بتياراتها المختلفة بما فيها التيارات الإسلامية الصاعدة على أنها تمثيل للحالة الوسطية في عدد من الدول العربية بعد 11سبتمبر.
2- هناك إشكالية ما يسمى في الأدبيات السيسيولوجية اليسارية للعلوم الاجتماعية ب»الانتهازية البرجوازية» وهو وإن بدا مصطلحا بائدا, فإن بعض مصطلحات الدراسات الاجتماعية تبقى قادرة على الاحتفاظ بحيوية جهازها المفاهيمي وإن خفت بريق أطرها المعرفية. وهذه الإشكالية كما يبدو تظهر في أن هذه المصالحة في خضم الطروحات الإصلاحية الداخلية داخل عدد من الدول العربي لم تتم إلى هذه اللحظة إلا بشكل ضمني محدود جدا بين أطراف الرأي والعمل السياسي أنفسهم على اختلاف وتعدد تياراتها المشار إليه أعلاه وعلى تقارب انتماء معظمهم إلى الطبقة المتوسطة. بينما ظلت جهود كل منهم للمصالحة محصورة في محاولة كل طرف إصلاح ما بينه وما بين نظام البلد الذي ينتمي إليه، خاصة وقد تطلبت أوضاع بعض الأنظمة تشجيع مثل تلك المصالحة أو عدم رد المبادرة بشكل جفائي.
أما دافع تلك الأطراف فقد كان واضحا أنه للحصول على غطاء من القبول لنشاطها الذي اتخذ منحى تنافسيا غير معلن من بعضها البعض وإن لم ينح منحا أحاديا تصفويا كما كان الأمر من قبل خاصة ضد الأطراف الليبرالية. هذا مع العلم أن النشاط الذي كان يجري توسل قبوله لم يكن في بعض دول الخليج يتجاوز محاولة المشاركة بالرأي المكتوب أو تقديم المطالب. وقد صاحب ذلك اجتهاد كل طرف من تلك الأطراف لتحقيق بعض القبول الجماهيري من خلال طروحات وسطية تحاول أن ترمم القطيعة التاريخية التي عاشها المد الليبرالي إبان الثمانينيات في بعض دول الخليج والتي لحقت بالمد الإسلامي في أعقاب 11 سبتمبر.
3- الإشكالية الثالثة لهذه الحالة التي أنتجت توسيع الفجوة العربية, كما يبدو هو «تشابه الرطانة» في القضايا الداخلية لكل بلد وخاصة في عموميات الطرح من دعوة الإصلاح، الحقوق, المرأة وما إليه على اختلاف الخطابات بما فيها الخطاب الرسمي للنظام. ومع أنه يمكن النظر لهذه المسألة من جانب إيجابي وكأن هناك خطوطا عامة تلتقي عليها جميع الأطراف النشطة سياسيا أو رأيا بما فيها الجهاز الرسمي داخل كل بلد عربي إلا أن ما يجعل من الأمر إشكالية هو عزل التجارب العربية في طروح الإصلاح والحقوق والمرأة عن بعضها البعض. وهذا مما يجعل كلاً منها يقع في مأزق البداية الصفرية بدل تعميق وتطوير المشتركات والتعلم من أخطائها. كما أن مما يعقد الإشكالية هو التوقف الحاصل الآن عند ظاهر الخطاب دون وضعه على محكات عملية نحو تفعيل حقيقي لأي منها كطرح تصور ولا نقول بالضرورة جدول عمل لكيفية مقاربة هذا الخطاب والخروج به مما يشبه الرطانة الملتبسة عن الإصلاح والحقوق والمرأة وما إليه إلى الكلام الواضح المحدد القابل للتطبيق وللمساءلة بل وللنقد والتعديل والتفعيل.
أخيلة مختلفة للحلم
ليس البديل بطبيعة الحال عدم الوقوف مع كل المحاولات والمطالب العادلة للإصلاح الداخلي في كل دولة من منظومة الدول العربية. فبناء كل بلد عربي بقواه الذاتية وبمشاركة كل طرف من أطراف قواه الاجتماعية وأطيافه السياسية في إطار من الاحترام المتبادل بينها وبين النظام السياسي لبلدانها أمر مشروع ولكن بجانب ذلك فإن حلم الوحدة العربية المنشود قد يكون له أكثر من صيغة مبتكرة. قد تكون أكثر احتراماً لاستقلالية كل بلد عربي ولمشتركاته معاً, فإذا كانت أوربا قد توصلت على اختلافاتها وخلافاتها التاريخية والراهنة العميقة أن تتوصل لحلم الاستقلال والاتحاد معا فلماذا لا نبتكر عدداً من الأخيلة الخلاقة لحلم الترابط العربي بما بيننا من مشتركات الخبز والجرح والماء.
باتجاه الأمل
هناك عدة مقاصل تنصب بأيدينا حينا وبأيدي غريبة حينا أخرى ولكننا نصر أنها ليست لنا وهناك أجراس تدق الخطر بدق أعناقنا كأمة عربية ليس من ناحية عرقية ولكن كوجود إنساني وحضاري وسيادي وطني غير أننا في غرف العزل بيننا وبين أقرب جيران المشترك اللغوي والثقافي والجغرافي لا يستطيع أي منا أن يسمع إلا لغو لهجته المحلية وبصعوبة بالغة لشدة انقسامنا حتى في ذلك الحيز الضيق.
فهل يأتي يوم نخرج على مواكب الكبوات ونطلع من رماد التشظي وتمشي فيه الشجر باتجاه الأمل؟
Fowziyah@maktoob.com