إن الدخول في حرب قد يكون سهلاً؛ أما الخروج منها فهو الجزء الصعب من الأمر. وتصديق هذه الحقيقة البديهية بشكل خاص على الولايات المتحدة اليوم، في حين تناضل للخروج من ثلاثة حروب - اثنتين منها فُرضَتا عليها فرضا (الحرب في أفغانستان و»الحرب ضد الإرهاب»)، وورطتها الإدارة الأميركية التي أعمتها الإيديولوجية وغطرسة القوة في الحرب الثالثة (العراق).
ولا أمل للولايات المتحدة في تحقيق نصر عسكري في أفغانستان أو العراق؛ ولم يعد بوسعها أن تتحمل التكاليف الاقتصادية المترتبة على هاتين الحربين الاقتصادية إلا بالكاد، كما بدأ الدعم السياسي يتضاءل في الداخل.
والآن بات لزاماً على الولايات المتحدة أن تنسحب، ولكن الثمن الذي قد تتكبده الولايات المتحدة وحلفاؤها في المنطقة والغرب بالكامل تظل كل احتمالاته مفتوحة. فقد انسحبت آخر القوات الأميركية المقاتلة من العراق بالفعل.
وعلى الرغم من اللجوء إلى كل الحيل المتاحة في جعبتها فإن القوى العسكرية الأعظم على مستوى العالم لم تتمكن إلا من خلق نوع من الاستقرار الداخلي الهش المؤقت في العراق.
والواقع أن لا أحد اليوم يرفع لافتات «المهمة أنجزت». فلم يتم التوصل حتى يومنا هذا إلى حل حقيقي لأي من المشاكل السياسية الملحة الناجمة عن تدخل الولايات المتحدة - توزيع السلطة بين الشيعة والسُنّة، وبين الأكراد والعرب، وبين بغداد ومناطق العراق المختلفة. والوضع في أفغانستان أكثر تعقيدا. فأفغانستان عبارة عن صورة منعكسة في المرآة للعراق: فهي أمة بلا دولة.
ولم تشكل النزعة الانفصالية هناك أي تهديد قط، ولكن منذ الغزو السوفييتي في عام 1979 كانت البلاد مسرحاً لحروب دارت حول صراعات عالمية وإقليمية. وما نشهده في أفغانستان اليوم ليس مجرد حرب أهلية. ذلك أن إيران والهند وبلدان آسيا الوسطى، وباكستان بصورة خاصة، تخوض جميعها صراعاً من أجل فرض النفوذ هناك - كل عبر حلفائه من الأفغان.
في البداية كانت الحرب في أفغانستان حرب تحرير ضد الجيش الأحمر؛ ثم تحولت إلى حرب أهلية، ومنذ منتصف التسعينيات بدأت تندرج ضمن الصراع الهندي الباكستاني، حيث سعت باكستان إلى تحقيق عمق استراتيجي وفرض نفوذها الإقليمي من خلال حركة طالبان، التي تأسست في الأصل على يد جهاز الاستخبارات الباكستاني. ثم جاءت هجمات الحادي عشر من سبتمبر / أيلول 2001 لكي تحول أفغانستان إلى مسرح لحرب عالمية. ولكن ما الذي قد يحدث الآن؟ هل يحدث ارتداد إلى الحرب الإقليمية والإرهاب؟ وهل تأخذ التطورات منعطفاً غير متوقع؟ إن الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي واقعان في ورطة في أفغانستان. فلا يمكنهما البقاء في البلاد إلى أجل غير مسمى، ولا يمكنهما أن يرحلا فحسب.
إننا كثيراً ما ننسى أن الولايات المتحدة انسحبت في واقع الأمر من البلاد من قبل، في أعقاب انسحاب الاتحاد السوفييتي من أفغانستان في فبراير/ شباط 1989.
وبعد اثني عشر عاماً، وفي أعقاب الهجمات الإرهابية في عام 2001، كان لزاماً على الولايات المتحدة وحلفائها في الغرب أن يعودوا إلى محاربة القاعدة وطالبان، وهما التنظيمان اللذان حولا أفغانستان إلى تربة خصبة للإرهاب الإسلامي.
إن استيعاب دروس التسعينيات ليس بالأمر الصعب، وهي دروس أكثر أهمية من أن نتجاهلها. ولكن من الواضح رغم ذلك أن بعض المسؤولين في الغرب يحاولون تجاهلها. فالأوروبيون يفضلون الانسحاب عاجلاً وليس آجلا، ومن المرجح أن تحذو الولايات المتحدة حذوهم.
لقد بات من الواضح الآن حجم الخطأ العظيم الذي ارتكبته الولايات المتحدة حين تقاعست عن وضع إستراتيجية سياسية لائقة في التعامل مع أفغانستان، واعتمدت بدلاً من ذلك على السبل العسكرية فحسب.
والواقع أن إستراتيجية «أفغنة» الصراع عن طريق تدريب قوات الأمن المحلية - والتي تم الاتفاق عليها في بداية هذا العام في مؤتمر استضافته لندن - تستند في الأساس إلى الجدول الزمني لانسحاب الولايات المتحدة والأوروبيين، وليس إلى الوضع داخل البلاد وفي المنطقة.
وإذا تركت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلنطي أفغانستان لتتدبر أمورها بنفسها من دون العمل أولاً على إيجاد القدر الأدنى من الاستقرار الإقليمي، فمن شبه المؤكد أن يعود خطر التشدد في وقت قصير نسبيا، ولسوف يكون هذا الخطر أعظم مما كان عليه في التسعينيات. ولكن الاستقرار الإقليمي يتطلب في الأساس توضيح الدور الذي تلعبه باكستان في أفغانستان.
ويتخفى نفس التحدي خلف صيغة «إدراج طالبان» في أي تسوية لمشكلة أفغانستان، وذلك لأن طالبان لا تملك القدرة على المساومة في غياب باكستان، كما أثبتت لنا الأحداث الأخيرة. إن المفتاح إلى حل مشكلة أفغانستان يكمن في إسلام أباد وليس في كابول.
وهذا يعني أن ريتشارد هولبروك، مبعوث الرئيس الأميركي باراك أوباما الخاص إلى أفغانستان وباكستان، أصبح الآن أكثر أهمية من القائد العسكري في أفغانستان، الجنرال ديفيد بتريوس.
ولابد وأن تستضيف عاصمة باكستان المفاوضات الرامية إلى التوصل إلى أي حل إقليمي حقيقي، ولا أحد يستطيع أن يزعم أن شروط النجاح ميئوس منها، رغم أنها تشتمل على القضية الأكثر تعقيداً - والتي نادراً ما تُذكَر - المتمثلة في العلاقات الهندية الباكستانية.
إن الغرب يريد الانسحاب من أفغانستان، وسوف يفعل ذلك بكل تأكيد. ولكن المفارقة العجيبة هنا هي أن الانسحاب قد يقود الغرب إلى حروب إقليمية أعظم خطورة مع تقدم إيران نحو تحقيق هدفها المتمثل في تصنيع الأسلحة النووية. وإذا حدث هذا فإن خطط الانسحاب سوف تعاد إلى الرف - وربما لسنوات عديدة.
خاص (الجزيرة)
وزيراً لخارجية ألمانيا ونائباً لمستشارها