منذ اللوحة والعمل الفني يُدعم من خلال طبقة برجوازية غنية تتبنى دورها في عصرنا اليوم مؤسسات عالمية كبرى ورجال أعمال محترفين. واليوم وبعد أن كان العمل الفني خليط من الألوان على مسطح الكانفس صار ينفذ على السواحل والجبال والمحيطات مستخدماً سطح الأرض والغلاف الجوي وكل ما يمكن للإنسان أن يتفاعل معه على وجه الأرض بداية بالفكرة مروراً بجسده نفسه إلى أجساد الآخرين انتهاءً باستخدام الكوكب. مذ ترك الفنان مرسمه إلى الهواء الطلق بتأثير من الانطباعية وهو يتدرج في تمرده. جاكسون بولوك سكب طلاء البيوت على لوحاته مناغماً بين حركة جسده وفراغ اللوحة. مارسيل دوشامب ترك الرسم وتحول إلى ما أطلق عليه الأعمال الجاهزة أو السابقة التجهيز واهتم بالعناوين التي يسجلها على تلك الأعمال، بل إن تطرفه لترك الرسم وصل حداً اتهم فيه الرسام بالغباء مصرحاً بعشقه للشاعر رامبو والمسرحي الفريد جاري مدللاً بهذا على رفضه التأثر بسيزان الرسام. دونالد جد تخلى أيضاً وتدريجياً عن التصوير متجهاً إلى المصنع مستخدماً صناعاً هم من المهارة والحنكة لصنع أعماله النحتية، مقابل هذا لم يتخلى كيث آرنات عن الرسم فقط بل عن النحت أيضاً مكتفياً بتعليق لافتة على صدره مكتوب عليها «أنا فنان واقعي». ستيوارت برسلي قدم فن الآداء كأداء حي يعرض لمرة واحدة للتأكيد على لا دوامية العمل الفني. من ذات الفكرة انطلق جوزيف بويز منادياً بأن يكون الفن تمريناً للحواس كي تصبح أكثر حدة. الأمر الذي تطور إلى اعتباره الفكرة الناشئة من العمل هي نفسها تحفة فنية. ريتشارد لونغ نأى بفنه عن كل الاتجاهات السائدة داعياً إلى فن مندمج بالطبيعة بل اعتبر الفن والطبيعة شيئاً واحداً ليصبح في سبيل تحقيق هذا المفهوم من كبار مشائي عصرنا، مقرراً أن يكون لآثار قدميه معنى، متعلماً بذلك ومعلماً أخلاق الطبيعة، متعمداً حرصه على أن لا تقلق أعماله النائمة على الأرض هدوئها وسكونها، منادياً بأن الطبيعة التي لا غنى عنها في الدرس الجمالي مستعدة للقبول باقتراحاتنا الجمالية، بشرط أن نحترم قوانينها. ريتشارد لونغ الذي أسوة بعدد كبير من الفنانين الذين استخدموا الأجهزة الحديثة في عرض أعمالهم تم عرض أعماله من خلال الخرائط والصور التوضيحية وقطع مصغرة من أعماله. روبرت سميثون استخدم التراكتورات لصنع جزيرة على شكل دوامة وتم عرض عمله من خلال وسائط الفيديو والصور. مارينا ابراموفيتش استخدمت في عرض أعمالها الآدائية التركيب والإنشاء والفوتوغراف والمواد الجاهزة والنحت وفن الفيديو لكنها بعيداً عن كل من سبقها كانت الفنانة اليوغسلافية التي بلا وطن على الخارطة، أو يمكن القول بأنها الفنانة من وطن ما عاد يمثله إلا العدم والقسوة غير المسبوقة لتاريخ دموي من العذاب. مارينا وتعبيرا عن حالتها كانت تنزف دماً أثناء عروضها فتجلد نفسها بالسوط مرة ومرة تغرس السكّين بسرعة في المسافات التي تفصل بين أصابعها، أو ترسم بموس الحلاقة نجمة على بطنها في محيط سرّتها، وأحياناً تستخدم الجمهور كصانع للعمل فتقف ليجرحها الجمهور بأدوات حادة حتى ينتهي الأمر بإغمائها، في وقت آخر وتزجية للوقت تلتهم بنهم بصلة كبيرة يمتلئ بها فمها فتظهر على عينيها نظرة متفجعة دامعة أشبه بالعين المواجهة للموت، بينما يتسلل من حنجرتها إلى الجمهور شعور اشتعال واستغاثة وغثيان وحرقة وعذاب وتضاؤل أمل. مارينا تقول: «القتلى ليس لهم صوت، نحن نصنع ذلك الصوت.، في إمكاننا أن نفعل ذلك دائماً». الفن أيضا يلح علينا لننتبه إلى عظمته وتعدده فيقول: «الفن ليس له صوت، نحن نصنع ذلك الصوت، في إمكاننا أن نفعل ذلك دائماً» في إمكاننا أن نتعدد نبدأ من النقطة التي نشاء وننتهي إلى النقطة التي نشاء في حرية وانطلاق وأيا كان السائد الثقيل والنمطي والمعتاد فإن للفنان الحق بأن يختار شكلاً لصوته، يتطرف، يجنح، يخالف، إنما يأتي بجديد مدهش. هذه الرسالة لفنانينا الأفاضل عل الرسم لدينا يتزحزح قليلاً عن مهابة العناد في وقفته.