|
ليس في نيتي أن أكتب عن غازي القصيبي الشاعر والروائي والمفكر والسياسي والمثقف لأنني أثق أن مئات المقالات والكتب ستصدر فيما بعد عن هذا الرمز الإنساني الرفيع، وصدرت فيما قبل، وبعضها جاد موضوعي، والبعض متزلف رخيص..
|
وكان قد تحدث عن هذا النمط في بعض لقاءاته الحميمة كما ذكر الأخ محمد نصر الله في إحدى مقالاته التي كادت تطال (أعني مقالة نصر الله) بعض الأبرياء من الكتاب والنقاد الذين يرفضون أن ينصاعوا لمثل هذه النزعات الدونية، ولكن من المنصفين من رد التهمة عن هؤلاء بنزاهة وشرف ودافعوا برجولة وخلق عن الحق.
|
ما أردته من هذه المقالة كلمة وفاء بحق الرجل الذي صعدت روحه إلى بارئها حيث العدل المطلق، وأنا إذ أكتب عنه -رحمه الله- لاأزعم أنني التقيته يوما أو كانت لي به صلة صداقة على الرغم من طول الفترة التي قضيتها في المملكة العربية السعودية، ولكنني -هنا - أحاول أن أقدم رؤية عن بعد لشخصية الرجل، ذلك أن لي تجربتين اقتربت من خلالهما من القصيبي إلى مسافة ربما سمحت لي بالوقوف على ما أظنه مفتاحا لهذه الشخصية الاستثنائية:
|
في المرة الأولى عندما كنت مدرسا في ثانوية تبوك في أواخر الستينيات وإبان عقد السبعينيات وأول الثمانينيات من القرن الماضي وكان نجم الرجل قد سطع واحتل مكانة مرموقة، وقد أصدر حينها سيرته الشعرية، وكنت قرأت عنها في الصحف، ولم يكن وصول الكتب إلى تبوك أمرا ميسورا، فخاطبت الرجل، وكان يومها وزيرا، وطلبت منه الكتاب، وقد ذكرت له حينها أنني في منفاي البعيد لا أستطيع الحصول عليه، ولم أكن أتوقع أن يجد طلبي أذنا صاغية بهذه السرعة، فقد أرسل لي الكتاب مشفوعا ببطاقة إهداء مشبوكة بغلاف الكتاب، وأعترف أنني على الرغم من ابتهاجي بوصول الكتاب كنت ممتعضا لأن الشاعر الوزير لم يكتب الإهداء ممهورا بتوقيعه، وذهب بي الظن بعيدا، وربما ساورني الندم لأنني طلبت الكتاب واعتبرت فعلتي تلك خطيئة ما كان لي أن أقترفها وأنها ربما تكون ضربا من ضروب التقرب إلى ذوي الشأن، وأن ذلك لاينبغي أن يكون من إنسان يحترم نفسه، وكنت في سن الشباب الذي يغري الإنسان بالغضب لأدنى مساس يعتقد أنه لحق بكرامته الشخصية، ولم تكن عرامة تلك المرحلة من العمر لتتيح لي فرصة التأمل في المهمات الجسام التي ينهض بها رجل في مقام القصيبي، وأنه يكفي أن يلتفت إلى طلبي ويسارع لتلبيته، ولكنه نزق الشباب وسورة الاعتداد بالنفس والحساسية المفرطة في تلك السن الغضة.
|
وكانت التجربة الثانية في حائل في عام 1984 حيث كنت أعمل أستاذا مساعدا في كلية المعلمين، وفي تلك المرحلة التي امتدت لسنوات طويلة كنت أكتب في الصحف مقالات وقراءات نقدية، وكان القصيبي -رحمه الله- قد نشر قصيدة في أعقاب الفتنة التي تلت معركة بيروت عام 1982 وأسفرت عن خروج المقاومة من لبنان ومن ثم مذبحة صبرا وشاتيلا والانقسام الرهيب الذي وقع في صفوف المقاومين، ومانتج عن ذلك بعد الرحيل إلى تونس، وكانت القصيدة قاسية، وقد نشرت في تلك الفترة قصيدة أخرى للشاعر أسامة عبدالرحمن تصب في المنحى ذاته الذي اتجهت إليه قصيدة القصيبي، وكذلك قصيدة ثالثة للشاعر عبدالرحمن العشماوي، وكتبت يومها قراءة نقدية ساخنة للقصائد الثلاث، وكان النقد في جوهره نقدا فنيا يقارب جماليات النصوص، ولكنه كان -على نحو أو آخر- يطال رؤية كل منهم.
|
وقد رأيت أن قصيدة القصيبي لاتصل في عمقها وجمالياتها مستوى ما كان ينشر من أشعاره، ووصفت قصيدته بأنها مناسباتية الطابع، تقليدية المبني لا ترقى إلى ماهو مأمول من إدراك لجوهر تلك الحقبة التاريخية، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك حين اتهمته بعدم الغوص إلى حقائق الأمور والتعامل مع معطياتها، بل وأوغلت في انتقاد القصيدة فوصفتها بأنها تفتقد الرؤية الشمولية وأنها مجرد استجابة انفعالية وتصريف للاحتقان الناجم عن مشاعر الإحباط والألم، وهذا لايرقى إلى مستوى وصفه لعملية إبداع الشعر في كتابه عن تجربته الشعرية التي اعتبرها في مستوى العمليات النفسية المعقدة، وهذا بسبب التعامل الخارجي مع الحدث، وليس ثمرة الاشتباك مع الجوهر واستقراء البعد التاريخي له، فمنطق المناسبة هو الغالب وليس منطق الرؤية الشعرية بمفهومها االتشكيلي الجمالي.
|
وكنت بيني وبين نفسي أستعد لنتائج غير مرضية لما كتبت، وأدركت أنني قد تجاوزت حدودي في نقد الرجل، ولكنني كنت في أعماقي مقتنعا بأنه لابد من أن أقول كلمتي في خضم ماينشر في تلك الحقبة، وما يضخ عبر وسائل الإعلام مما كنت أعتقد أنه يجافي الحق والحقيقة، وبزغ أمامي المثل الذي يقول (إذا وقع الجمل كثرت السكاكين).
|
لقد عز علي أن يشارك في ذلك المهرجان الإعلامي المجاني شاعر مبدع في حجم الدكتور غازي القصيبي وزميلاه اللذان أعتبرهما معه من الشعراء المجيدين، وفوجئت بأن الرجل لم يغضب ولم يصدر عنه ما ينم عن أنه مستاء لذلك على الرغم من أن جريدة الجزيرة قد أفردت صفحة كاملة من صفحاتها لتلك المقالة وأخرجتها إخراجا لافتا.
|
واستشعرت في داخلي احتراما عميقا لهذا الإنسان، لقد كان القصيبي -رحمه الله- أشبه بالمتنبي الذي أحبه وتمثله، وظل يستشهد به دائما، واللافت أنه في روايته (العصفورية) ترجم ولعه بالمتنبي عبر تلك المقتبسات االتي تناثرت في مساحة واسعة من الرواية على لسان البروفيسور بشار الغول بطل الرواية الذي تماهى معه كاتب الرواية، واستثمر أسلوب التداعي الحر الذي شكل بنية السرد عبر جلسة العلاج النفسي، فقدم المتنبي الذي لقبه القصيبي بأبي حسيد عبرعشرات العبارات والنصوص التي اختارها من شعر المتنبي وأوردها على لسان بشار الغول، واستخدم نبرته الساخرة من أهل العصر والزمان ليكشف عوراته مطوفا في أرجاء الدنيا ليجأر بالشكوى من الحالة العجيبة التي تحول فيها العاقل قسرا إلى مجنون يحلم بالتغيير ويسعى إلى تحقيقه، ناعيا على أهل الزمان ما ارتكسوا فيه من سقوط بدا معه الجنون طريقا للخلاص، فلم يعد العصر يحتمل وجود العقلاء، وبدا وهو ينزف مرارة وأسى لما حل بعربستان، وهو الاسم الذي اختاره ليرمز به إلى الوطن العربي.
|
إنني أعتقد أن مفتاح شخصية غازي القصيبي رحمه الله تكمن في قول المتنبي:
|
ودع كل صوت غير صوتي فإنني
|
أنا الطائر المحكي والآخر الصدى
|
هذا المبدع كان صوتا فريدا لايتكرر بل يتميز ويتفوق، فهو الشاعر الذي تستبيه الأمكنة وتختطفه الأزمنة وتغويه المشاعر، رسم البحرين صورة زاهية على صفحات وجده المشبوب، وحين توفي شقيقه نبيل أصدر ديوانا كاملا حمل اسم الراحل عنوانا له، كانت تلك تنم عن توهج وجداني إنساني يكمن في أعماق نفس وفية.
|
وحين انصرف إلى كتابة الرواية كانت رواياته ذات خصوصية مائزة، فاختط طريقا طليعيا ساخرا عبر نبرة تضج بالألم مما يندرج تحت ماعرف ب»السخرية السوداء» التي اشتهر بها يوسف إدريس في مجموعته القصصية «النداهة».
|
وعندما تصدى لكتابة المقالة إبان حرب الخليج الثانية كانت كتاباته نمطا جديدا تضج بروح القصيبي بعرامتها وصراحتها القاسية وهجائيتها الجارحة، كان مثقفا شموليا على النحو الذي تصوّره (جرامشي) فجمع بين المبدع والسياسي والمفكر الاجتماعي والناقد الساخر والإداري الجاد والكاتب الفحل والإعلامي الرصين والصحفي الشفاف الذي يلتقط الحقيقة من منابعها ويقدمها ساخنة طازجة معجونة بملح اللحظة في رعونتها.
|
كان -رحمه الله- يمزج ذلك كله في خلاّطته الخاصة ليشكل منه أسلوب القصيبى الفريد ورؤيته الخاصة، ولكن ذلك لايعني أن الرجل كان مصيبا في كل الأحوال، بل كان مجتهدا، وربما خرج إلى ماهو أبعد من الاجتهاد، ولكنه يظل غازي القصيبي المنشئ الذي تود إذا سمعته متحدثا ألا يصمت وإذا قرأته كاتبا ألا ينتهي، وإذا أطل محاورا عبر قنوات الفضاء ألا يغيب. وحتى حينما استشعر دنو الأجل أصر أن يمهر الصفحة الأخيرة من حياته ببصمة المبدع فوقعها شعرا مؤكدا هويته شاعرا كما كان البدء وكما سيكون الختام، فقد عاش سبعين عاما من المصاولة والمجاولة، «ومن يعش سبعين عاما لا أبا لك يسأم» فقد اختزل في هذا العمر أعمارا عديدة شأن الكبار الذين لا يقنعون بما دون النجوم.
|
الطير هاجر والأغصان شاحبة |
والورد أطرق يبكي عهد آذار |
إن ساءلوك فقولي: لم أبع قلمي |
ولم أدنس بسوق الزيف أفكاري |
وإن مضيت فقولي: لم يكن بطلا |
وكان طفلي ومحبوبي وقيثاري |
هذا هو القصيبي الذي لم تكن الحفاوة به عربيا على المستوى الإعلامي أثناء حياته وبعد غيابه لائقة بمكانة الرجل وبمستوى قامته، وكم أسفت حين رأيت أن الرجل لم يأخذ نصيبه من الحفاوة بعد أن رحل عن عالمنا كما يليق به على المستوى القومي كما حدث على المستوى الوطني حيث نعي نعيا رسميا في السعودية ونال الحفاوة التي يستحقها؛ وأنا أعتقد أن المناصب الإدارية والسياسية التي شغلها الرجل قد كانت سببا في إخفاء حجمه الإبداعي والفكري، فكثير من النقاد والكتاب يعزفون عن الحديث عن المسؤولين خوفا مما قد يلحق بهم من مظنة التزلف، وأنا أرى أن يعاد البحث عن الشخصية الإبداعية للقصيبي وتجليتها بعيدا عن الجانب الوظيفي الذي طغى على القيمة الحقيقية له بوصفه مبدعا ومثقفا، وهنا يأتي دور الأكاديميين وطلاب الدراسات العليا وغيرهم من الباحثين ليقدموا للتاريخ علما قل نظيره في تاريخ الثقافة العربية. رحمه الله رحمة واسعة
|
|
ياعالم الغيب ذنبي أنت تعرفه |
وأنت تعرف إعلاني وإسراري |
وأنت أدرى بإيمان مننت به |
علي ما خدشته كل أوزاري |
أحببت لقياك حسن الظن يشفع لي |
أيرتجى العفو إلا عند غفار؟ |
الأردن - جامعة جدارا |
|