الحديث عن السياحة الوطنية أو الداخلية شأنٌ يهم الكثير من الشرائح المجتمعية، سواءً تلك المستفيدة، أو المقدمة لبرامجها وخدماتها البنيوية واللوجستية.. وهذا الحديث السياحي
بطبيعة الحال يستدعي بالضرورة والتلازم الحديث عن الهيئة العامة للسياحة والآثار، التي تلعب أدواراً مهمة على صعيد تنمية قطاع السياحة في المملكة، وبناء الخطط والمبادرات لتحويله إلى صناعة ذات قدرة تنافسية، وبيئة استثمارية نشطة، ووجهة مستدامة.
في هذا الإطار أنجزت الهيئة وشركاؤها في مجالس التنمية السياحية بمختلف مناطق المملكة العديد من مؤشرات الإنجاز بما يخص تنمية هذا القطاع، وتطوير وتحسين وتسويق منتجاته، خصوصاً في المناطق والمدن التي تمتلك مقومات الجذب السياحي، من حيث الطبيعة والمناخ المعتدل والشواطئ البحرية الجميلة، والمرتفعات الجبلية، والمواقع الأثرية والتاريخية والمرافق والبنية التحتية والعلوية.
من نماذج المدن السياحية الجميلة في المملكة مدينة الطائف، زهرة المصايف السعودية، والعاصمة الصيفية الرسمية للدولة، تقع على المنحدرات الشرقية لجبال السروات على ارتفاع نحو (1700م) فوق سطح البحر، وتزداد درجة الارتفاع كلما اتجهنا إلى جهتي الغرب والجنوب لتصل إلى (2500م).. وهذا الموقع المرتفع أكسب مدينة الطائف أجواء طبيعية ومناخية صيفية لطيفة وملائمة، جعلها منطقة جذبٍ للكثير من الزوار والسياح بقصد الراحة والمتعة والاستجمام، وهرباً في الغالب من حرارة الصيف المرتفعة في بعض مناطق المملكة والدول المجاورة.. ويتراوح متوسط درجة الحرارة العظمى في أشهر الصيف في الطائف ما بين (34 - 35) والصغرى ما بين (21 - 23) درجة مئوية.
ومن أشهر وأجمل مصايف الطائف منتجعا: الهدا، جهة الغرب، ويبعد عنها بنحو (20كم).. والشفا، جهة الجنوب، ويبعد عنها بنحو (25كم).
من العناصر المهمة الأخرى التي جعلت من مدينة الطائف مقصداً للزوار والسياح، موقعها الإستراتيجي المهم، في ملتقى الطرق الرئيسة القادمة من الجنوب والشمال والشرق والغرب.. وإطلالتها على مدينة مكة المكرمة والحرم المكي الشريف، ويربطها بالمدينة المقدسة طريقان، أحدهما عبر جبل الكر، وطوله (68 كم)، والآخر عبر مركز السيل الكبير، وطوله (90 كم).. إضافة إلى موقعها ومناخها وطبيعتها المتميزة، اشتهرت الطائف بطرزها وفنونها المعمارية والهندسية البديعة، وبالرواشين والمشربيات والنوافذ الخشبية الجميلة، كما تزخر بالعديد من المعالم الحضارية والأثرية، التي تعكس القيمة الثقافية التاريخية العالية لهذه المدينة الموغلة في القدم، وإحدى أقدم المستوطنات البشرية في جزيرة العرب. ومن أبرز هذه المعالم: مسجد عبد الله بن العباس رضي الله عنهما.. وسوق عكاظ التاريخي (على بعد نحو 50 كم إلى الشمال الشرقي من مدينة الطائف) أشهر أسواق العرب القديمة، ملتقى الأدباء والشعراء، والسلع والبضائع والصناعات المختلفة من جزيرة العرب وفارس والحبشة ومصر والشام.. ومن المعالم والشواهد الحضارية كذلك قصر شبرا الذي شُيّد إبان الحكم العثماني للحجاز، وقد تمَّ تحويله إلى متحف وطني.. ويُعد من أبرز متاحف الطائف.. ومن المتاحف الأخرى: متحف القرية الخضراء، ومتحف عكاظ للتراث الشعبي، ومتحف وطني للتراث الشعبي.. وتضم هذه المتاحف الآلاف من المقتنيات النادرة والثمينة من العصور القديمة إلى العهد السعودي.. ومن أبرزها: الموروثات الشعبية، والملابس التقليدية، وأدوات المهن والحرف والأواني والجلديات القديمة، والعملات والمشغولات الأثرية ذات القيمة التاريخية، والمنحوتات الحجرية، والمخطوطات والصور القديمة، والأسلحة والذخائر.. ومن المعالم الأثرية الأخرى: عين زبيدة، وسد سيسد.. إضافة إلى العديد من القصور الأثرية، والمساجد التاريخية، والسدود، والنقوش، والقلاع والحصون، والطرق البرية القديمة، ومنها: طريق الجمَّالة ودرب المشَّاية، وهو طريق حجري يعبر عقبة الكر نحو الهدا ثم الطائف.
الطائف مدينة الرمان والعنب، والمشمش والتين الشوكي ومزارع الورد، وأشجار العرعر، تقف اليوم واجهة عصرية متقدمة تحظى بمقومات المدن الحديثة، والحضارية، بمساكنها، ومراكزها التجارية، وفنادقها، ومنتجعاتها السياحية، وبنيتها التحتية والعلوية الحديثة، ومنافذها البرية المعبدة التي تربطها بمنظومة المدن السعودية، ومنفذها الجوي (مطار الطائف الإقليمي) الذي تمَّ تحديث صالاته مؤخراً.. إضافة إلى منتزهاتها التي تغطي مساحات واسعة منها، مثل حديقة الملك فهد، والردف، وتلفريك الهدا وقرية الكر السياحية، وحديقة الحدبان، ومنتزه وادي عريضة.
هذه المعطيات الإيجابية تجعل من الطائف والهدا والشفا مناطق جذب سياحي بامتياز.. كما أنَّ المهرجانات والفعاليات الثقافية والترفيهية والتسويقية التي تقام في فصل الصيف، وخلال موسم الإجازة الصيفية، تضفي المزيد من التألق السياحي لهذه المدينة العريقة وهي تتهيأ لاستقبال زوارها.. ويُعد «مهرجان صيف الطائف» من أبرز الفعاليات الثقافية السنوية التي يشرف على إعدادها مجلس التنمية السياحية بالطائف.
بالمقابل، وإزاء هذه المعطيات السياحية الإيجابية لمدينة الطائف، تبرز صعوبات وإشكالات عِدَّة تحول دون حصول القادم إليها على منتجات سياحية مناسبة بتكلفة اقتصادية ملائمة، ودون عناء أو مشقة. وهذه الصعوبات أو الإشكالات ذات صبغة عمومية تتصل بكل المناطق السياحية الأخرى، وتعد بالتالي من أبرز معوقات تنمية السياحة الداخلية في المملكة.. ومنها:
«الناقل الجوي»: إذ بوضعه الراهن، وكما أشرت في مقال سابق غير قادر على استيعاب حجم الطلب الكلي على مقاعده المتاحة حتى في الأحوال الاعتيادية، ناهيك بمواسم الإجازات والعطلات.. الأمر الذي دفع بسمو رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار للتعبير عن مدى حزنه وألمه ألا يجد سائح مقعداً على رحلة جوية عند ما يريد أن يذهب إلى أبها أو الطائف، أو يتجه شمالاً أو جنوباً.
وتزداد حِدَّة هذه الإشكالية حين يكون الخيار الآخر «الناقل البري» صعباً وشاقاً في ظلِّ تدني مستوى منظومة التسهيلات الخدمية واللوجستية لبعض مسارات الطرق البرية بوجهاتها المتعددة، خصوصاً ذات المسافات الطويلة نسبياً.. وتبدو هذه الصعوبة والمشقة ماثلة أكثر بالنسبة للعائلات والأطفال وكبار السِّن.
ولعلَّ الهيئة العامة للسياحة والآثار تأخذ بزمام المبادرة باعتبارها الجهة المسؤولة عن تنمية هذا القطاع المهم، ومن خلال شراكاتها المجتمعية، لدراسة الأفكار والرؤى التي تساعد على معالجة هذه الإشكالية المقلقة.. ومن ذلك دراسة مسألة توسيع منظومة التشغيل والتوظيف في سوق الطيران الداخلي، بإفساح المجال لشركات الطيران الخليجية والعربية والأجنبية الراغبة في توسيع نطاق وجهاتها العالمية، للمشاركة في عمليات تشغيل خطوطه الداخلية المتعددة، عبر منظومة متكاملة من الشراكات والاتفاقيات التجارية.. وإفساح المجال كذلك للقطاع الخاص الوطني والخليجي والأجنبي للدخول بقوة في مجال الاستثمار والتوظيف في هذا القطاع الاقتصادي والتجاري المهم ووفوراته الإنتاجية والاستثمارية العالية.
«المنظومة السعرية المرتفعة للمنتجات السياحية»: وهي من الإشكالات التي تؤرق القادم إلى الطائف والهدا والشفا.. فالارتفاع الحالي لأسعار المنتجعات والوحدات السكنية السياحية، والأماكن الترفيهية، غير مبرر، ويتجاوز بمعدلات عالية نفقات الإنتاج، وهامش الربحية.. ومما يحبط السائح أكثر أنَّ الغلاء في الأسعار لا يقترن في الغالب بتقديم خدمة جيدة المستوى.. بلْه أنَّ البعض من هذه المنتجات يفتقر أساساً إلى معايير النظافة، ناهيك عن معايير الجودة.. ومن ثمَّ فإن على الهيئة العامة للسياحة والآثار والجهات المعنية الأخرى الاهتمام والعناية بسياسات التسعير التي تراعي التكاليف الحقيقية للخدمات المقدمة ودرجات جودتها، وتكفل للسائح الحصول على خدمات جيدة بأسعار اقتصادية تنافسية.. وقد علمنا أنَّ الهيئة قد أنجزت تصنيفاً جديداً لتسعير وحدات قطاع الإيواء الفندقي والوحدات السكنية السياحية يستهدف تحقيق التوازن في السعر ونوعية الخدمة.. مما يتطلب الأمر تشديد الرقابة والمتابعة لمنع التجاوزات في الأسعار ومستويات الخدمة المقدمة.. فالسياسات التسويقية الناجحة هي التي تعتمد أساساً على تكامل سياسات (المنتج، التسعير، الترويج، التوزيع) أو ما يُعرف بسياسات المزيج التسويقي.. وفي تقديري أننا بحاجة إلى مزيدٍ من الوقت والجهد والعمل والإرادة لبناء تطبيقات هذا المزيج بما يخص التنوع في البرامج السياحية، ومعايير الجودة.
خلاصة القول أنَّ الطائف والهدا والشفا تُعد خيارات رئيسة لمريدي السفر والسياحة داخل الوطن، وحسب الإحصائيات السياحية تبدو أكثر المناطق جذباً للسياح.. ولكن لا يزال الأمر بحاجة إلى مزيدٍ من العمل والجهد والوقت، وكثير من المبادرات والاستثمارات، وصولاً إلى تنمية سياحية مستدامة، تُعَّزز من القيمة المضافة للناتج المحلي الإجمالي، وتنعكس إيجاباً على فرص العمل والتوظيف، وتضمن للسائح في الوقت نفسه الحصول على برامج سياحية عالية الجودة، وبتكلفة اقتصادية ملائمة، تحقق له أفضل فائدة وإشباع ممكن.
الكلمة الأخيرة: من المهم جداً العناية والاهتمام بتسويق دليل الخدمات السياحية على أوسع نطاق ممكن، ليكون في متناول السائح قبل قدومه، ليتسنى له قائمة اختيارات متنوعة تناسب رغباته وطموحاته وإمكانياته الاقتصادية.. والعناية كذلك بإصدار المطبوعات بأدواتها المختلفة للتعريف بالسياحة الداخلية، والمقومات السياحية في المملكة، الغنية بتنوعها، وبما يسهم في نشر وتعزيز مفهوم ثقافة السياحة الداخلية، والهوية السياحية السعودية، وآثارها الاقتصادية والمجتمعية.