روي أن ابن السماك سأل الخليفة هارون الرشيد وهو يهم بشرب الماء: «يا أمير المؤمنين لو مُنعتَ هذه الشربةَ بِكَم كنتَ تشتريها؟ قال بنصف مُلكي؛ قال اشرب هنأك الله تعالى. فلما شربها قال: أسألك لو مُنعت خروجها من بدنك بماذا كنت تشترى خروجها؟ قال بنصف مُلكي الآخر. قال إن ملكاً قيمته شربة ماء وبوله لجدير أن لا يُنافس فيه»، فبكى الرشيد.
شربة الماء وخروجها من نعم الله العظيمة على العباد، نسيهما الرشيد فَذُكِرَ بهما فأسترخص مُلكَهُ مُقابل الحصول عليهما. لم يعلم ابن السماك عن مرض الفشل الكلوي وهو يعظ الخليفة، ولو علم لعدل في الشق الثاني من السؤال ولكانت موعظته أكثر تأثيرًا وإيلامًا.
مرضى الفشل الكُلوي هم أكثر الناس معرفةً بموعظة السماك، فشربة الماء لديهم باتت مُحاطة بمحاذير ونواهي قاسية، ففي (تجرعها) الألم والمضاعفات وزيادة السوائل في الجسم، وفي تركها العطش وحرمان النفس من ملذات الحياة؛ وفي كلتا الحالتين لا غنىً لهم عن عمليات الغسل الدموي المؤلمة لطرد السموم، والإبقاء على حياتهم بأمر الله.
ليس لمرضى الكلى مُلكاً يتنافسون عليه؛ ولو كان، لبذلوه مقابل كلية صحيحة تُعيدهم إلى حياتهم الطبيعية، وأقصى أمنياتهم أن تتوفر الرعاية الصحية الشاملة التي تهون عليهم آلام المرض، وتضمن إخراج السموم من أجسامهم، وتساعدهم في تحمل نفقات أسرهم الثقيلة. شاهدت تنافس مرضى الفشل الكلوي على سرير شاغر في إحدى المستشفيات الحكومية، فتدخلت مستفسرًا عن سبب منع المريض من ذلك السرير فَصَدمتني الإجابة!...»السرير في انتظار مريض له موعد ثابت، وفي حال تأخره يمكن لأحد هؤلاء المنتظرين الاستفادة من ساعات الغسل المتاحة»؛ ومن هو المحظوظ من أولائك المرضى؟: «الأشد تضررًا»؛ وماذا عن الآخرين؟ «يذهبون إلى أقرب مستشفى»؛ وأقرب مستشفى يبعد 85 كيلومترًا تقريبًا، وقائمة الانتظار لديهم طويلة!
وزارة الصحة تقوم بدورها في معالجة المرضى، وتوفير مراكز الغسل، إلا أن عدد الإصابات بمرض الفشل الكلوي في ازدياد، وتوزيعهم الجغرافي يحول، في بعض الأحيان، دون توفير العلاج اللازم لهم ما يدفعهم إلى تحمل عناء السفر للوصول إلى أقرب مستشفى يتوفر فيه مركز لغسل الكلى. أعتقد أن عدد الحالات تفوق في الوقت الحالي قدرة المستشفيات الحكومية على استيعابها بكفاءة، أو لنقل القدرة على الانتشار السليم الذي يوفر للمريض العلاج بالقرب من مكان وجوده؛ إضافة إلى ذلك فوزارة الصحة تقوم بتوفير العلاج، إلا أنها ليست مسئولة عن النواحي الاجتماعية التي يمكن أن تتسبب بأضرار توازي في حجمها أضرار المرض نفسه. هناك جانب آخر متعلق بعدم أهلية بعض المرضى للعلاج في المراكز الحكومية، والذين لا يتمتعون بتغطية طبية، وغير ذلك. جمعية الأمير فهد بن سلمان الخيرية لرعاية الفشل الكلوي (كلانا) جاءت لتتحمل مسؤولية تأمين الخدمات الطبية الشاملة والخدمات المساندة للمرضى المحتاجين وفق برامج متكاملة تُكلف الجمعية ما يقرب من 80 مليون ريال سنوياً. تهتم الجمعية برعاية أكثر من 700 مريض وهي تستهدف مضاعفة الرقم الحالي، والوصول إلى المرضى في أماكن وجودهم. التركيز على دور الجمعية في تقديم الرعاية الصحية والاجتماعية الشاملة قد يحول دون إبراز الدور التنظيمي والتطويري الذي تمارسه الجمعية بكفاءة عالية. عقد المؤتمرات العالمية المتخصصة بأمراض الكلى، المسح الميداني، تحديد احتياجات المدن والقرى، الوصول إلى المرضى، إنجاز تصاميم نموذجية لمراكز الغسل، وضع التوصيات الخاصة بإصدار الأنظمة المساعدة في تطوير الرعاية المقدمة لمرضى الفشل الكلوي، كنظام التبرع من الأحياء غير الأقارب، وتنسيق التبرعات الخاصة ببناء المراكز جزء من إنجازات الجمعية المتميزة خلال السنوات الماضية. كُلُّ تلك الأعمال المباركة تعتمد في ميزانياتها المالية على تبرعات أهل الخير، المصدر الأساسي للجمعية. أما الأعمال الإدارية فيقوم بها رجال متطوعون بذلوا أنفسهم لخدمة المجتمع، ومساعدة المحتاجين.
تسعى جمعية (كلانا) إلى ضمان استمرارية الرعاية لمرضاها الحاليين، والتوسع في تقديم خدماتها العلاجية والاجتماعية في جميع مناطق المملكة، إلا أن ذلك الهدف يحتاج إلى التمويل الدائم الذي يمكن أن تُبنى عليه الخطط المستقبلية. الجمعية في حاجة إلى الدعم المستمر من المواطنين والمقيمين، وقطاع المال والأعمال الذي ننتظر منه الكثير في دعم الجمعيات الخيرية وجمعية (كلانا) على وجه الخصوص. التبرع الدائم بإرسال رسالة (SMS) تحمل الرقم 1 إلى الرقم الموحد لشركات الاتصالات 5060 لن يكلف مرسله غير 12 ريالاً شهريًا، إلا أنه سيضمن مورداً ثابتاً يعين الجمعية على مواصلة نشاطها المبارك. حملة «مليون مشترك» قد تكون هدفًا مشروعًا للجمعية، وللمؤمنين بدورها الفاعل. من يراقب حجم ودخل رسائل الترشيحات الأسبوعية لأفضل الفرق، واللاعبين في دوري زين، واشتراكات جوالات الأندية، أو الرسائل الموجهة للمحطات الفضائية يعتقد أن هدف المليون مشترك يمكن تحقيقه في عمل الخير الذي يؤجر فاعله، في الوقت الذي قد يتعرض فيه مرسل رسالة الترشيح إلى الوزر بسبب التبذير، أو الدخول في الميسر بالنسبة لرسائل المسابقات.
من حق الجمعية على رجال المال والأعمال والقطاع المصرفي، والشركات المساهمة المدرجة في سوق المال توفير الدعم السنوي الثابت، كجزء من خدمة المجتمع. ومن حق المجتمع على رجال المال المنفقين في أوجه الخير أن يُساهموا في بناء مراكز غسل الكلى في المدن والقرى المحتاجة، فلعلها تكون أكثر نفعًا للمسلمين، وأعظم أجرًا للمتبرعين من بعض الأوقاف الأخرى؛ فمريض الفشل الكلوي لا يستطيع العيش دون الحصول على جلسات الغسيل، ففي توفير المراكز والدعم المالي مساهمة في إحياء النفس البشرية؛ يقول الله سبحانه وتعالى: «وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا». يتسابق المحسنون لبناء المساجد، وفي ذلك الخير الكثير، إلا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «ما أمرت بتشييد المساجد»؛ قال ابن عباس لتزخرفنها كما زخرفت اليهود والنصارى؛ قال الخطابي رحمه الله: التشييد: رفع البناء وتطويله. يمكن لأهل الخير الجمع بين بناء المساجد ومراكز الغسل، على سبيل المثال من خلال توفير جزء من تكلفة (رفع البناء وتطويله) واستثماره في أوقاف يحتاجها المجتمع من أجل توفير الرعاية الصحية للمرضى المحتاجين. فيجمع المتبرع بين الحسنيين. غفر الله للأمير فهد بن سلمان بن عبدالعزيز وأسكنه فسيح جناته، وأجزل للقائمين على جمعية «كلانا» الأجر والمثوبة، ورزقهم العفو والعافية والبركة نظير ما يقدمونه من خير للمرضى المحتاجين وأسرهم، وللمجتمع.»وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ».
****
F.ALBUAINAIN@HOTMAIL.COM