ارتباط (معركة بدر) بـ(رمضان)، من باب ارتباط الأمور الكبرى ببعضها، فرمضان أعظم الشهور وأكرمها، وغزوة بدر أعظم غزوات الإسلام وأكرمها، وقد أسماها الله سبحانه وتعالى (يوم الفرقان) لأنها كانت المعركة الفارقة الفاصلة بين الحق والباطل، والفارقة بين ضعف المسلمين وقوتهم، وبين عزة الكفار وذلتهم، فقد كان المسلمون قبل بدر دولة صغيرة ناشئة في بحر من القبائل العربية التي ما تزال على كفرها، وكانوا في نظر كثير من الناس فئة قليلة ليست بذات أثر التأم شملها في المدينة بعد أن هاجر معظم أفرادها من مكة هرباً بدينهم، ولكن غزوة بدر جعلت هذه الفئة ذات قوة وعزة ومنعة، أما الكفار فكانوا قبل بدر يرون أنفسهم الأعز والأقوى والأولى بالمكانة والمنزلة، وكانت قبائل عرب تنظر إليهم بهذا المنظار، ولكن غزوة بدر قلبت الصورة، فحولت كفار قريش ومن معهم إلى جانب الذلة والهزيمة، وأفقدتهم قدراً كبيراً من تلك المكانة التي كانت لهم عند العرب.ومن هنا كان يوم بدر (يوم الفرقان)، لأنها فرقت بين الحق والباطل، والصواب والخطأ، وقومت اعوجاج الرؤية التي كانت تضع المسلمين في موضع الضعف والهزيمة، والكفار في موضع القوة والنصر.
أما بدر فقيل: هو اسم بئر حفرها رجل من غفار في ذلك الموقع، فأطلق عليها اسمه، وكان اسمه بدراً، وقيل: هو بدر بن قريش بن يخلد الذي سميت قريش به، ومهما قيل في هذا الاسم، فقد أصبح اسماً علماً على المعركة الفاصلة بين الكفر والإسلام.إن الذي يقرأ خبر هذه المعركة منذ بدايتها يشعر بأن الله عز وجل قد أرادها بهذه الصورة، وعلى هذا الوجه، وفي هذا الوقت، وذلك المكان لحكمة عظيمة لم يكن يعلمها إلا هو سبحانه.
خرج المسلمون يريدون العير بما فيها من المال، فأراد الله لهم النفير بما فيه من القتال، لقد أخبر الله رسوله فيما أنزل عليه من القرآن في سورة الأنفال أن الله سبحانه هو الذي أخرجه من بيته بالحق، وأن الله قد كتب عليه وعلى المسلمين في هذا الخروج إلى القافلة، مواجهة المشركين في معركة الفرقان ليحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين، نعم، هم خرجوا لاعتراض أبي سفيان قائد قافلة قريش، ولكن الله كتب أن يواجهوا قريشاً كلها في معركة بدر الكبرى، يقول تعالى: (كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ) (5) سورة الأنفال.
ويقول سبحانه: (وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ) (8 - 8) سورة الأنفال.
إذن، فن معركة بدر معركة مرسومة بإرادة الله وتقديره، وهي مرسومة لتكون فارقة بين الحق والباطل، ولتكون قاطعة لدابر الكافرين - وما أبلغها من عبارة تصور الانقطاع الكامل لمكانة المشركين - فالعرب تقول: (قطع دابره) إذا أنهاه كلياً، وقضى عليه.
ولأن الله سبحانه قد رسم بقدرته خط سير هذه المعركة، فقد توالت الأسباب التي هيأت لذلك بصورة عجيبة، فالمسلمون يخرجون في طلب القافلة، وأبو سفيان يعلم بذلك، فيبعث مباشرة بضمضم بن عمرو الغفاري لإنذار قريش واستنفارهم، ويسرع ضمضم إلى مكة، ويصل إليها وقد جدع أنف بعيره وحول رحله: أي قلبه على غير ما هو معتاد، وشق قميصه، وأخذ يصرخ: يا معشر قريش (اللطيمة اللطيمة)، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه، لا أرى أن تدركوها، الغوث الغوث حالة مثيرة لا يمكن لقريش معها أن تهدأ، وهذا كله تهيئة من الله سبحانه وتعالى لما أراد، والناس عنه غافلون.
لقد جرت الأحداث بسرعة عجيبة لم يكن يتوقعها أحد، حتى رسول الله عليه الصلاة والسلام وأصحابه لم يكونوا متجهزين أصلاً لمعركة كبرى، وقد ذكر الله سبحانه ذلك في قوله مخاطباً المسلمين (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ) أي تريدون القافلة بما حملت فهي أهون وأسهل، وما تريدون (ذات الشوكة) يعني الجيش بعدته وعتاده، لأن مواجهة هذا الجيش تحتاج إلى إعداد وتجهيز مناسب، ولكن الله سبحانه وتعالى أراد أن تكون المعركة ليحق الحق ويبطل الباطل، وقد كان.
إن غزوة بدر مدرسة متكاملة للإيمان واليقين، والصبر، والدعاء، والإقدام والشجاعة، والتثبيت من الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين، والخذلان للمشركين، إنها مدرسة تستحق أن يلتحق بها جميع المسلمين في هذا العصر وفي كل عصر لينهلوا من علمها وثقافتها وفكرها ومنهجها الإسلامي الأصيل فما خابت أمة تملك مثل هذا الكنز العظيم من المواقف العظام.
إشارة:
قال تعالى: (وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى).