إنَّ مثل الهيئة ومثل المجتمع السعودي كقرية أخذت تتطلع لتسود ما حولها من القرى فأتى أحد أبنائها (أي الهيئة) بمتغيرات حديثة وأموال من الخارج لكنه في خضم الكفاح ذهل عن بسطاء قريته في سباقه مع الزمن، فاحتقنت عليه المشاعر، فجيش عليه بعضهم عامة الناس وخواصهم لأسباب هنا وهناك، حتى قعد ابن القرية الطموح وحيداً معزولاً عن القاعدة الشعبية التي يعمل من أجلها، فلا بد الآن من مد الجسور وإصلاح ذات البين من أجل الوطن والمواطن.
الهجمة الشرسة على الهيئة العامة للاستثمار لم تتسلح بأي حقائق في هجومها الشعبوي على الهيئة سوى استغلالها للبيئة الفكرية للمواطن السعودي التي تتهم كل مسئول وتُشكك في كل عمل طموح للوطن. فلنسرد الحقائق ولننظر إليها بعقولنا لا بعقول غيرنا، ولنحللها بالمنطق ثم لنصدق الله والوطن والمواطن، والعاقل لا يقول: سمعت شيئاً يقوله الناس فقلته.
الحقيقة الأولى: الهيئة لم تأخذ أموالاً لا من الدولة ولا من المواطن، بل إن مجموع ما جلبته للوطن أو ساهمت فيه إذا قُورن بميزانيتها -بحسبة بسيطة- لوجدناه يعادل قيمة خمسة آلاف سنة من ميزانيتها، أي بجمع الخمس السنوات الماضية، فإن كل ريال صُرف على الهيئة أتي بألف ريال ونحن ما زلنا بعد في مرحلة التأسيس. أو إن شئت فقل ما جلبته الهيئة أو ساهمت فيه يساوي أكبر ميزانية في تاريخ المملكة، فقل إن ما جلبته الهيئة أو ساهمت فيه يزيد على قيمة ثلث الموجودات الأجنبية للسعودية التي نباهي بها العالم. فكيف تُتهم الهيئة بالفساد المالي؟ والمال أجنبي؟ والأجنبي يعلم أين يضع أمواله، فلا يبك عليه بالله متباك.
الحقيقة الثانية: إن الهيئة سهلت على المستثمر الأجنبي دخول البلاد، وهذا من صلب عملها، وقد أتقنت عملها الذي كنا نتباكى على حالنا مع دبي في تسهيلها للمستثمر الأجنبي، وأتى مع السيل العظيم زبد غثاء وهذا لا بد منه، فالكسول لا زبد له. وأما المستثمر السعودي فهو خارج مسئولية الهيئة وقد أهمله المسئول عنه فلِمَ تُلام الهيئة فيه؟ ومع ذلك فمعظم التسهيلات التي قُدمت للمستثمر السعودي كانت الهيئة وراءها من أجل التنافسية. وزيادة على هذا، فإن نسبة السعودة في الاستثمار الأجنبي تبلغ 27% بينما لا تزيد عند المستثمر السعودي عن 13% فأيهما أنفع للوطن؟ وعلاوة عليه فإن هدف الهيئة من الاستثمار الأجنبي هو جلب المعرفة لا الأموال، لذا فقد نسقت مع الجهات المختصة بأن تمنح ريال تخفيض من الضرائب مقابل كل ريال يصرفه الأجنبي على التدريب المتطور، وكذا في البحوث العلمية وإدخال السعوديين فيها، وإرسال أبناء حائل إلى الخارج وإقامة مركز تدريب راق لأبناء جازان.
الحقيقة الثالثة: عملت الهيئة على تحسين سمعة المملكة عالمياً ولا يستطيع أحد أن يجادل في هذا، وقد عملت الهيئة من وراء الكواليس ونسقت مع كثير من الجهات الحكومية في تحسين أوضاعها -ولا يتسع المجال لسردها- ابتداء من القضاء إلى التمويلات إلى المستثمر السعودي واللائحة تطول. فمشكلة الهيئة أنها تعمل على تحسين البيئة التنافسية من خلال غيرها من الجهات الحكومية وتواجه في ذلك الأمرَيْن وظلم ابن الوطن. وما يُعجب له هو خروج بعض جماعتنا وقد لبسوا لباس المثالية والانضباطية المطلقة فتباكوا خشية واحتياطاً وورعاً من أن نكون قد غشننا العالم «الدرويش» وأوهمناه بأننا بيئة تنافسية ونحن ليس كذلك، فيهدمون في الداخل ما تبنيه الهيئة في الخارج، فمتى يبلغ البنيان يوماً تمامه ... إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم.
الحقيقة الرابعة: عدم الشفافية في المشاريع عند الهيئة فلا يُعلم بها إلا بعد ظهورها وما ذاك إلا تخوفاً من تكالب المستنفعين عليها وتعطيلهم للمشاريع، وقد أعلنت الهيئة قديماً عن مشروع ضخم فعُطل وأوقفه التنافس الهدام بين أبناء الوطن على منافعه! فمن يلوم الهيئة ونحن نعلم حالنا.
الحقيقة الخامسة: لمعت الهيئة نفسها إعلامياً وحُق لها، فهي تسوق للسعودية في العالم ونجحت فأتت بنصف ترليون ريال وما تحويه من علومها وتقنيتها. والهيئة لا تأخذ مالاً من الوطن لذا فقد أثرت الأزمة المالية في تأخر إنجاز المدن الاقتصادية فاستغل هذا بعضهم في التشكيك فيها. وأخيراً، فقد بلغت مشتريات الاستثمار الأجنبي من السوق المحلية السعودية في عام 2009 فقط (225 مليار) أي خمس الناتج القومي المحلي، وبعبارة أخرى أن خُمس دخل السعوديين قد أتى من الاستثمار الأجنبي، فكم من تاجر استرزق وكم من مواطن انتفع.
إن مما سكت عنه أن ما سبق لا يعدو أن يكون مجرد إشارة، وبقي أن تخرج الهيئة فتحدث الناس عن نفسها، وفي المثل الفرنسي: «الغائبون دائماً على خطأ».
hamzaalsalem@gmail.com