لست هنا بصدد الكتابة عن الدكتور الشاعر والأديب المبدع والسفير الدبلوماسي الناجح غازي عبدالرحمن القصيبي، فهو غني بما كُتب ويُكُتب عنه من قبل كبار الأدباء والشعراء والكتّاب العرب الذين يعرفونه حق المعرفة، ويضعونه في المكان اللائق به بينهم.
|
أما أنا وإن كتبت عنه بدافع الصداقة والإعجاب به، فمهما قلت عنه فلن يضيف إليه قلمي المتواضع شيئاً، أو يزيده رفعة، أو مكانة، فهو هرم شامخ، وقمة جبل عالية تعانق هامات السحاب، وتملأ فلوات الفضاء الواسعة بكل ثقة وثبات.
|
أقول مهما قيل أو كُتب عن الدكتور القصيبي يبقى ذلك العقل الكبير الذي كم سعت وتسعى الأقلام وأربابها في محاولة لم تنجح بعد لرسم ملامح شخصيته الفذة المتعددة الجوانب والمواهب والوجوه، لذلك يبقى القصيبي - رحمه الله - كما قال بعض من كتب عنه أنه لغز محير يصعب حل طلاسمه وفك رموزه، وهذا ما يجعله دائماً في دائرة الضوء، وفي محل التساؤل والاستغراب حتى من قبل أولئك الذين يعرفونه حق المعرفة، وكذلك المقربين منه.
|
لذلك بات أديبنا الكبير وشاعرنا المبدع شيئاً مختلفاً وحالة استثنائية لم يتفق بشأنها، فأعماق فكره وقدراته الأدبية كالبحر لم يهتد لساحله بعد تكتشف سواحله بعد، حتى وإن بلغت مؤلفاته سبعين كتاباً أو أكثر.
|
لكن، ويا للفجيعة، فقد فوجئت صباح يوم الأحد 5-9-1431هـ الموافق 25-10-2010م بخبر وفاته - رحمه الله - في مستشفى الملك فيصل التخصصي في الرياض في تمام الساعة العاشرة من صباح يوم الأحد بعد صراع مع المرض، غيّبه عن بلاده لأكثر من عام، حيث كان يرقد في إحدى المصحات الأمريكية لتلقي العلاج، قبل أن يعود إلى مملكة البحرين، لقضاء فترة نقاهة لدى أحد أشقائه الذين يقيمون في العاصمة البحرينية، لينتقل منها بعد أن ساءت حالته الصحية إلى المستشفى التخصصي بالرياض ليلقى وجه ربه الكريم فيه، ويدفن في مقبرة العود.
|
وقد لفت نظري بعد وفاته - رحمه الله - في الصفحة السابعة من جريدة الشرق الأوسط العدد 11584 تحت عنوان (سلمان العودة ينعى القصيبي على الهواء مباشرة)، ومما جاء في هذا النعي أبيات من الشعر كان قد أرسلها له الفقيد في عامه الأخير هما:
|
أغالب الليل الحزين الطويل |
أغالب الداء المقيم الوبيل |
أغالب الآلام مهما طغت |
بحسبي الله ونعم الوكيل |
وهذان البيتان هما اللذان قيل إنّ الفقيد القصيبي لم يزد عليهما، وأن بقية القصيدة التي يتم تداولها منحولة ليست للدكتور غازى، كما أكد ذلك مدير مكتبه الأستاذ هزاع العاصمي في اللقاء الصحفي الذي أجرته معه جريدة الشرق الأوسط في عددها 115860 بدليل - كما قال العاصمي - إنّ أولاده وبناته معروفون وليس بينهم أحد اسمه هديل، فابنته الوحيدة اسمها يارا.
|
وبهذا تتضح حقيقة هذه القصيدة التي كانت محل تساؤل فليس للقصيبي فيها سوى البيتين الأولين.
|
هذا ولعلّ شاعرنا وأديبنا ووزيرنا وسفيرنا القصيبي قد شعر أثناء المرض بدنو أجله بعد أن بلغ من العمر ما بلغ، لذلك أخذ يخاطب السبعين عاماً التي عاشها بعشرة أبيات وجدانية أخرى نشرتها (الجزيرة) بعنوان (سيدتي السبعون)، سكب فيها صادق مشاعره وأحاسيسه، بل آلامه وأوجاعه.
|
كان - رحمه الله - صديقاً عرفته أول ما عرفته حين التقيت به في مكتبه في الطائف عام 1402 وزيراً للصناعة والكهرباء، وكنت حينذاك قائداً لمنطقة الطائف العسكرية، وفيما بعد التقيت به عدة مرات في مناسبات مختلفة، بعد أن أصبح سفيراً في لندن حيث تبادلت معه من موقعي في السفارة في أبو ظبي بعض المراسلات الشخصية، منها عندما بعثت له مخطوطة كتابي (من الحقيبة الدبلوماسية) ليطلع عليها ويبدي رأيه فيها، وإن سمح وقته - هكذا قلت له - أن يزينها بكلمة يقدم بها هذه المخطوطة بأسلوبه الرشيق وكلماته العذبة. وقد فعل ذلك مشكوراً - رحمه الله -.
|
والجميل في هذا أنه قال في رسالته الخطية المرفقة بالمخطوطة حين أعادها لي، ما نصه: «أخي صالح صدقني أنه لم يسبق لي أن قدمت لأيّ كتاب، لكن طلبك لا يرد» وذيّله بتوقيعه الذي لا يختلف «غازي» وتحته تاريخ التوقيع الذي لا ينساه أبداً. أما القصيدة بعنوان (سيدتي السبعون) التي سبق الإشارة إليها فإليكها عزيزي القارئ:
|
ماذا تريد من السبعين .. يا رجل |
لا أنت أنت.. ولا أيامك الأول |
جاءتك حاسرة الأنياب.. كالحة |
كأنما هي وجه سله الأجل |
أواه! سيدتي السبعون معذرة |
إذا التقينا ولم يعصف بي الجذل |
قد كنت أحسب أن الدرب منقطع |
وأنني قبل لقيانا سأرتحل |
أواه! سيدتي السبعون معذرة |
بأي شيء من الأشياء نحتفل |
أبا الشباب الذي شابت حدائقه |
أم بالأماني التي باليأس تشتعل |
أم بالحياة التي ولت نضارتها |
أم بالعزيمة أصمت قلبها العلل |
أم بالرفاق الأحباء الألى ذهبوا |
وخلفوني عيش أنسه ملل |
تبارك الله قد شاءت إرادته |
لي البقاء.. فهذا العبد ممتثل |
والله يعلم ما يلقى.. وفي يده |
أودعت نفسي.. وفيه وحده الأمل |
وفي الختام أجدني راغباً أن أذكر موقفاً طريفاً مع القصيبي - رحمه الله -:
|
ألّفت كتابا سمّيته (شعراء ماتوا جوعاً «خمسين شاعراً»)، فاتصلت به هاتفياً على مكتبه في لندن، وذكرت له الكتاب، قلت في نفسي لعله يطلب الاطلاع عليه ليكتب له مقدمة بصفته شاعراً كما فعل مع كتاب (من الحقيبة الدبلوماسية)، لكنه قال وهو يضحك عندما عرف أن عددهم خمسين، فقط هم يا أخ صالح خمسين شاعراً الذين ماتوا جوعاً؟!.
|
قلت لا، هم بالتأكيد أكثر من ذلك.. لكنك لن تكون واحداً منهم إن شاء الله، ضحك مرة أخرى. ولأنّ الحديث بيننا كان عن طريق الهاتف لذلك لم أشأ أن أطيل عليه، وهو الرجل المشغول بهمومه، وبالتالي لم أذكر له شيئاً عن موضوع التقديم، قلت لعلّ لديه ما يكفي لأن يشغل به جل وقته.
|
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته وألهم أهله وذويه ومحبيه الصبر والسلوان.
|
|