Al Jazirah NewsPaper Saturday  28/08/2010 G Issue 13848
السبت 18 رمضان 1431   العدد  13848
 
ورحلت قيثارة الوطن
هاني محمود طيبة

 

لا أدري إن كنت أهلا لأكتب عن معالي الدكتور غازي القصيبي أم لا؟! فهو -رحمه الله- شخصية من الوزن الثقيل. جمعت بين جوانبها الكثير من المميزات التي جعلته بحق شخصية مثيرة للجدل. وهذا في رأيي إن دل على شيء. فإنما يدل على النجاح. فقد عزف الدكتور غازي -رحمه الله- على الكثير من الأوتار. فهو الرجل الوزير والشاعر والروائي والرائد في أعمال الخير. مما جعله كما وصف نفسه -رحمه الله- قيثارة للوطن.

التقيت بالدكتور غازي -رحمه الله- أول مرة سنة 1977 في مدينة الخبر. حيث كنت في معية سيدي الوالد الشيخ محمود طيبة -رحمه الله- وكانا قد حضرا إلى المنطقة الشرقية لزيارة مصنع سافكو للأسمدة. كنت في مقتبل الشباب وعندي بعض الأفكار التجارية. فقدمني سيدي الوالد للدكتور غازي رحمهما الله : هاني! أكبر الأبناء ومن صغار رجال الأعمال. فضحك الدكتور غازي -رحمه الله- وعقب قائلا: الصغير يكبر. وتحدثت وقتها مع سيدي الوالد عن ترخيص معين. فقال لي -رحمه الله- وقتها: أنا لوجاءنى مثل هذا الطلب فسأرفضه. وسكت أنا. فتدخل الدكتور غازي -رحمه الله- قائلا: لقد حملنا الله سبحانه وتعالى عبء مسؤولية النهوض بهذه البلاد، وهذا يستدعي أن نبذل الوقت والجهد لنضع قوانينَ تكون في مصلحة البلاد سواء على المدى القصير أوالمتوسط أوالبعيد. فلا يصح أن نضع نحن القوانين والأنظمة لنطبقها على الغير ثم نخالفها مع أبنائنا وأقربائنا. بل على العكس. فنحن نتوقع منك أن تساعدنا على تطبيقها. وأن تكون مثلا يحتذى به الغير. قالها -رحمه الله- بطريقة جعلتني أصرف النظر عن موضوعي باقتناع وجعلتني أشعر بمسؤولية تجاه احترام الأنظمة والقوانين.

والتقيت به -رحمه الله- مرة أخرى في رمضان. فذكر قول الله سبحانه وتعالى: ?فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ? (45) سورة الحج. وذكر رحمه الله جمال التعبير القرآني في قوله (وبئر معطلة) وهو كناية عن موت القرية إذ قال الله سبحانه وتعالى: ?وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ? (30) سورة الأنبياء، والقرية هي شيء من الأشياء.

ثم التقيت به رحمه الله عدة مرات في اليوم المفتوح أثناء وجوده في لندن كسفير لخادم الحرمين الشريفين. وهى سنة حسنة ابتدأها معاليه في السفارة حينما حدد يوما في الأسبوع تفتح فيه أبواب السفارة للسعوديين لزيارة السفارة والجلوس إلى معاليه في جو بعيد عن الرسميات. وكان -رحمه الله- يجلسني بجانبه ويقول ضاحكا هنا ركن «الصُلعاء» على وزن الشعراء. إذ كان الصلع هو ربما الميزة الوحيدة التي نشترك فيها سويا. وكان -رحمه الله- يقص علي بعض المواقف التي كانت له مع سيدي الوالد -رحمه الله-. ويسألني عن أحوالي ويؤكد على أنه في الخدمة إذا أحتجت لأي شيء أثناء وجودي في مدينة لندن. ولاحظت أثناء حضوري لهذا المجلس أن لكل من الحضور موقف معين أوموضوع مع معاليه يذكره به. وهذا يدل على سعة شخصيته رحمه الله.

كانت هناك علاقة عميقة بين معاليه وبين سيدي الوالد -رحمهما الله-. علاقة قوية أساسها الثقة والاحترام المتبادل. وكان كثيرا ما يمتدحه سيدي الوالد -رحمه الله-. ويصفه في الإدارة بالجهبذ. ويقول بأنه يصل الليل بالنهار لتذليل الصعوبات التي تعترض المؤسسة العامة للكهرباء. سمعت يوما سيدي الوالد يتحدث على الهاتف مع أحد المسؤولين في الكهرباء. ويناقش مشكلة تعترض أحد مشاريع الكهرباء. وحين انتهائه -رحمه الله- من المكالمة. اقترحت عليه اقتراحا قد يحل هذه المشكلة. فقال لي -رحمه الله-: هذا الحل يحتاج إلى صلاحيات الوزير. فما كان منه -رحمه الله- إلا أن اتصل بالدكتور غازي. وشرح له المشكلة. ثم قال له بأن الابن هاني قد اقترح حلا أراه معقولا وشرح لمعاليه اقتراحي. وبعد انتهاء المكالمة قال لي سيدي الوالد -رحمه الله- بوجه ضاحك بأن الدكتور غازي قد وافق على اقتراحي قائلا: لا نستطيع أن نرفض اقتراحا لهاني.

أسر معاليه لوالدي -رحمه الله- يوما بأنه لوكان يعلم حجم المسؤولية الضخمة في وزارة العمل من قبل لاعتذر عن تولي المنصب. ويعلم كل من عاصره وعاش معه أن هموم وزارة العمل قد حفرت آثارها في صحته -رحمه الله وأثابه- على كل لحظة قضاها حاملا هموم وزارته.

كان رحمه الله من أول المعزين بوفاة سيدي الوالد -رحمه الله-. وكان أول من كتب فيه مقالا واصفا إياه -رحمه الله- بالرجل المضيء. وأقول اليوم بأننا افتقدنا ضوءا آخر من أضواء الوطن والتي كانت تنير لنا الطريق. أسأل الله أن يرحمهما وأن يجمعهما سويا في دار لا صخب فيها ولا نصب.

كان وجود هذه الشخصيات المتميزة بيننا يشعرنا بدفء الحياة. كنا نعيش تحت مظلتهم. ونحس بأن هناك من نلجأ إليه حين الحاجة للنصح والإرشاد. وكان وجودنا بينهم يشعرنا بديناميكية في الحياة. لا يذوق حلاوتها إلا من عاشها. فتجدهم يعملون جاهدين لا يغفلون عن صغيرة ولا كبيره للوصول لدرجة الإتقان في العمل. ويضربون المثل لأجيال قادمة في التفاني والإخلاص لخدمة الله جل جلاله ثم المليك والوطن. أما وقد اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى بأن تذوق كل نفس الموت. فأسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيمن تبقى لنا من هؤلاء الرجالات وأن يمتعنا الله بوجودهم بيننا. وأرفع العزاء لمقام خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز وصاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبدالعزيز ولي العهد سائلا المولى عز وجل أن لا يضن عليهم برجال مثل الدكتور غازي رحمه الله.



 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد