Al Jazirah NewsPaper Saturday  28/08/2010 G Issue 13848
السبت 18 رمضان 1431   العدد  13848
 
رحم الله الاستثناء الذي ملأ الدنيا حياً وسيشغلها ميتاً
خالد محمد الهويش

 

قال الخليفة الرابع الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه عند القدر المحتوم وقد سأله القوم أن يعظهم قال (يعظكم سكوتي، وخفوت أطرافي). وقال المأمون (يا من لا يموت ارحم من يموت).

وحسبي أن الدكتور غازي القصيبي كان يقول هذا وهو يودع.....

......الحياة ذلك الصباح الذي ترجل فيه الفارس وغيبه الموت. حين تلقيت الخبر لم أتسرع في تصديقه وتوقعته في البداية شائعة أو كذبة مثل خبر إعلان وفاته قبل أكثر من أربعة شهور. بعدها توالت الرسائل، وتأكد خبر الوفاة، وتحدد موعد الصلاة على الفقيد عصراً. كان الوقع بالنسبة لي مفزعاً وشديداً وفاجعة وخسارة كبرى لرجل كان ملء السمع والبصر حتى أتاه اليقين.

فعلى الرغم من معايشتنا للمرض الذي ألم به وهو سرطان المعدة وتقبلنا للفراق في أي لحظة إلا أن نبأ الوفاة ووقع الرحيل جاء مزلزلاً وغصة وألماً شديداً وحزناً اعتصر قلبي. غاب رجل الدولة وفارس الكلمة والدبلوماسية الرجل الذي ملأ الدنيا وشغل الناس. مات غازي بعد معاناة مع المرض استمرت قرابة عام قضاها في الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم عاد ليستكمل علاجه في المستشفى التخصصي بالرياض إلا أن القدر لم يمهله طويلاً فوافته المنية، حتى في وفاته كان كبيراً وعظيماً فقد رحل واختاره ربه في العشر الأولى من أيام رمضان المبارك في الشهر الذي أوله رحمة وأيامه مليئة بالرحمات. في جامع الإمام تركي بن عبدالله الذي شهد الصلاة عليه كان الجو صيفاً شديد الحرارة والناس صياماً ومع ذلك كان الجمع كبيراً.... وحرص الكثيرون على المشاركة في حمل النعش إلى السيارة بعد الصلاة وكنت من ضمن هذا الجمع الكبير... وهناك في مقبرة العود وإلى قبره ومثواه الأخير، حيث وورى الثري، وشاركت مع الجميع في مراسم الدفن وحبست دمعة من عيني وأنا أهيل التراب على قبره ونظرة أخيرة حزناً وفراقاً على رحيل هذا الغالي غازي، أحبه الناس القاصون والدانون ودعوا له بالتوفيق والسداد حياً... وهم اليوم جاءوا يدعون له بالرحمة والرضوان بعد الرحيل. غازي القصيبي الذي غابت شمسه عن حياتنا ليبزغ نجمه في قلوبنا، إذ حفر في كل قلب بصمة من الحب السرمدي والعشق الإنساني.

أسلم روحه الطاهرة إلى بارئها تاركاً رصيداً وتجربة ضخمة وكبيرة وكثيرة في حياته الثرية في العمل الوزاري والدبلوماسي، ورصيداً إعلامياً ومؤلفات وشعراً ومقالات ثرية أكثر من70 مؤلفاً ستكون شاهدة على تميزه ونجاحه.

كان غازي رحمه الله راقياً في فكره، يمتاز بهدوء الطبع ودوداً حليماً عاقلاً طموحاً محباً للجميع، كان سامياً في تعامله، إنساناً في نبله باشاً حتى مع من يختلف معه في الرأي. أتدرون لماذا؟! لأنه الشاعر الذي قال:

من جرب الحب لم يقدر على حسد

ومن عانق الحب لم يحقد على أحد

رحل غازي الذي ظل يتربص به المرض ناشباً مخالبه في جسد أنهكته مرارات السنين وسلم روحه إلى بارئها. قال عنه د. عبالعزيز الخويطر: إن الشعر عنده أسهل من شرب الماء ولو شاء لما تكلم إلا شعراً. إنه الرجل الذي سبق زمانه.. إنه رجل دولة من طراز نادر وفريد، أتدرون لماذا؟ لأنه ترك بصمة قوية في كل مفصل من مفاصل العمل الذي تقلده. إنه الرجل الذي يدخل المنصب فيزينه لا ليزينه المنصب يدخله كبيراً ويخرج منه أكبر.

في محطته الوزارية الثانية وأقصد وزارة الصحة والتي أمضى فيها أكثر من عام تشرفت بأن أرافق الوزير غازي في تغطية مناسبات لوزارة الصحة مؤتمرات - ندوات - افتتاح مستشفيات - حملة تبرع بالدم. وقتها كنت في سنتي الأولى بالجامعة، محرراً متعاوناً في صحيفة الجزيرة.. وموفدا ًلتغطية مناسبات الوزير القصيبي. في حملة التبرع بالدم كان أول المتبرعين، وفي حضوره المناسبات كان يصل قبل الموعد المحدد، دقيقاً في مواعيده كنت أرقب جولاته في الزيارات التي يقوم بها يسأل ويناقش كان في تصاريحه لا يحب الإسهاب. كان يرى أن المشاريع تنفذ بالأفعال وليس بالأقوال.. كانت خطبه وكلماته مختصرة ليس فيها إسهاب أو تفصيل سواء كانت مكتوبة أو مرتجلة. ومن المشاهد التي شاهدتها في ذلك الوقت وسجلتها الذاكرة.. كان عندما يفتتح أي مناسبة لوزارة الصحة كان يتحدث باللغتين العربية ومن ثم الإنجليزية. لأنه يعرف أن هناك من الحضور من لا يتكلم العربية ومن جنسيات أجنبية، وهذه ميزة اختص بها الوزير غازي رحمه الله في مناسباته. كانت الخطب والكلمات لا تخلو من النكتة الحاضرة والطرفة والموقف.. يأسرك لحديثه وطموحه الذي سيفعله ويقدمه.

هذا الوزير الذي لم يتخصص أكاديميا في المجالات ذات الصلة بتلك المناصب التي تقلدها ولدت على يديه في فترته القصيرة التي تولاها في وزارة الصحة العديد من المشاريع.. ولا يزال المواطنون يذكرون له بكل التقدير الزيارات التي كان يفاجئ بها العديد من المستشفيات في المملكة دون موعد أو سابق إنذار ويدون الملاحظات، ويحاسب المقصرين ويشد على أيدي الجادين الفاعلين. بعدها انتقل إلى العمل الدبلوماسي واختير سفيراً لبلاده في مملكة البحرين واستمر حتى عام 1992م. وخلال تلك الفترة كما نعلم مرت المنطقة بظروف حرب الخليج وتحرير الكويت وكنا نرى الدكتور غازي وقتها يتحدث مع وسائل الإعلام الأجنبية من خلال موقعه سفيراً في البحرين. فمرة على الهواء من المنامة، وأخرى من الظهران، إضافة إلى هذا كان القراء على موعد معه من خلال زاويته المحببة والمقروءة في جريدة الشرق الأوسط (عين العاصفة) والتي كان يكتبها بأسلوب ساخر يجسد عمق رؤيته لمجريات الأحداث ومتابعته الحثيثة لها لحظة بلحظة. وظل في هذا المنصب إلى أن أختير عام 1992م سفيراً لخادم الحرمين الشريفين لدى بريطانيا. وفي تلك الفترة مثل المملكة في العديد من المؤتمرات، وتولى رئاسة مجلس أمناء أكاديمية الملك فهد. ومرت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م وهو سفير في بريطانيا، فرأيناه يشارك في مناسبات ومؤتمرات دفاعاً عن المملكة والإسلام. كان أثناء حرب الخليج الأولى يكتب القصائد الوطنية المغناة، كتب قصيدته الرائعة وملحمته الوطنية التاريخية: (نحن الحجاز ونحن نجد).

عاد الدكتور القصيبي من المملكة المتحدة بعد أن قضى فيها سفيراً عشر سنوات بعد أن تم تعيينه وزيراً للمياه في سبتمبر 2002م، وقتها زرته مع والدي الشيخ محمد الهويش يحفظه الله في مكتبه لتقديم التهنئة وكانت تربطهم علاقة وصداقة حميمة، حدد لنا اليوم وساعة الزيارة، جمعنا لقاء في مكتبه بالمؤسسة العامة لتحلية المياه بشارع التحلية. وقتها لم يكن هناك مقر لوزارة المياه وباركنا للدكتور غازي بهذا المنصب الجديد مبدين مشاعرنا القلبية لشاعرنا وسفيرنا الرائع بهذه الثقة السامية، سائلين المولى عز وجل أن يكتب له التوفيق في موقعه الجديد ويسدد خطاه لما فيه تطوير هذا القطاع الحيوي الهام في حياتنا اليومية.. دار وقتها حوار طويل وممتع.. حظي فيه الشعر بمعظم الوقت بالإضافة إلى فترة العمل بالسفارة في بريطانيا.

أذكر وقتها أني اصطحبت معي صورة وضعتها في برواز جميل كنت محتفظاً بها وأهديتها له كانت قد جمعتني مع الدكتور غازي وبعض المسؤلين أثناء زيارته لنا في جناح (سابك) المشارك في المعرض الخليجي المشترك المقام في لندن صيف عام 1995م. أخذ الصورة واطلع عليها وشكرني وقال هذه الهدية مكانها هنا ووضعها في دولاب مكتبه ذي الأبواب الزجاجية وكان بداخله مجموعة من الدروع والشهادات التي يحتفظ بها. وكنت في هذه المناسبة ممثلا ًمن قبل الشركة للمشاركة في هذا المعرض. أقيم وقتها حفل استقبال كبير بهذه المناسبة وأذكر وقتها أنه عندما وصل د. غازي مع رئيسة وزراء بريطانيا إلى جناح (سابك) استأذن الزملاء في سابك ليتولى الشرح والحديث عن هذه الشركة التي عاصر ولادتها، وتحدث بإسهاب وأجاب وقتها عن أسئلة رئيسة وزراء بريطانيا مارغريت تاتشر والصحفيين. أذكر أني قلت للدكتور غازي أثناء زيارتنا له أنا ووالدي في مكتبه إنك يا معالي الوزير قلت في أول تصريح لك بعد تعيينك وزيراً للمياه إن تطوير الموارد المائية والمحافظة عليها وترشيد استعمالها شيء لا يخلو من الصعوبة ثم رد قائلاً: ولكننا قادرون حكومةً وشعباً على مواجهة التحديات مستعينين بالعزيز الوهاب القائل في محكم كتابه {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ}. وذلك لمواجهة خدمة هذا القطاع ذي الصلة الوثيقة بحياة المواطنين اليومية وبمستقبل الأجيال المقبلة.

وتسلم القصيبي هذه الوزارة الجديدة في وقت وزمن تحاصرنا فيه التحديات من تصحر وندرة في المياه، وهو ما يواجه العالم أجمع الآن. ثم غادرنا مقر مكتب د. غازي، وقتها أصر أن يمشي معنا ويرافقنا حتى باب المصعد.. برفقة الزميل والصديق أبي غازي الأستاذ هزاع العاصمي المدير والمشرف العام على مكتب معالي الوزير وودعنا معالي د. غازي.. وشكرناه على هذا الاستقبال والجلسة الماتعة والجميلة التي لا تمل.

وقد كتبت مقالاً ونشرته بمناسبة تعيينه وزيراً للمياه عنونته ب(الأمن المائي قبل الأمن الغذائي) وعلى الفور جاءني خطاب شكر وتقدير وثناء على المقال من معالي الدكتور غازي القصيبي لازلت أحتفظ به.

بعدها أسندت له وزارة العمل ليحل مشكلة البطالة ومحاربة تجار التأشيرات ووقف تدفق سيلها وربطها بالحاجة والقدرة المادية، فدرس وأسس القواعد لعلاج المشكلة اختلف معه حتى محبوه وبعض رجال الأعمال في بعض القضايا والقرارات التي قدمها عند توليه هذه الوزارة وأنه سن أنظمة تحد من المتاجرة بهذه العمالة الرخيصة. ووقف لهم وقفة المحارب المتحدي. الكثير وقف وصفق احتراماً لنزاهته الوطنية. كما صفق لاهتمامه بإيجاد فرص وظيفية للشباب، نزل الميدان، عمل نادلاً في أحد المطاعم، قدم الوجبات للزبائن ليؤكد لأبناء الوطن أن العمل الشريف لا يعيب الشخص، وأنه خير من أن تمد يدك إلى الناس وأنت قادر على العمل.. كان يقول يجب أن نتعاون لنغير ثقافة (العيب) مستشهداً في هذه المناسبة أن بعض المسؤولين والوزراء السابقين والحاليين عملوا في مثل هذه المهن وغيرها أثناء دراستهم بالخارج ليؤكد لهم أنها من المهن الشريفة وليزرع فيهم حب العمل. وظل غازي يعمل ويقدم الحلول والفرص للشباب إلى أن داهمه المرض، بل كان يراجع المعاملات ويوجه ويقترح وهو على فراش الموت.

ظل غازي يخدم الوطن بأعماله وأقواله وأخلاقه وإنجازاته ومواقفه وإسهاماته، فقد صدر له في مرضه ثلاثة كتب، لقد كانت حياته كلها عطاء وجهاداً سيفقده كل من أحبه.

رحم الله الاستثناء الذي ملأ الدنيا حياً وسيشغلها ميتاً.

جعلك الله الفقيد الكبير من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.. فأنت يا غازي إن شاء الله من الفئة التي قال عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلساً يوم القيامة أحسنكم أخلاقاً.

الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) الرياض


 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد