لا شك أن الاهتمام بالبيئة أحد شروط دخول عصر الحضارة، وإذا دخل الاهتمام بالبيئة إلى أجندة السلطة الرسمية وخططها التنموية، وتم رصد الميزانيات الكبيرة لها، فاعلم أن الوطن في طريقه للدخول في مرحلة الوعي الحقيقي، ثم الانطلاق نحو أزمنة أكثر وعياً، لكن النتائج لا يمكن حسمها لمصلحة سلامة البيئة إذا استمر الإخلال بأجوائها دون عقوبات مادية ومعنوية، إذا لا بد من فرض جزاءات غرامية عالية على الذين يفسدون البيئة، وأن يتم إشهار المخالفات البيئية في بيانات دورية، واعتبارها إحدى الجرائم التي تطولها عاقبة القانون..
تعيش أغلب مناطق المملكة في بيئة صحراوية، وقد يندر حدوث الأمطار في أغلبها، لكنها قد تهبط أحياناً ًبغزارة غير معهودة، وتبحث المياه عن مجاريها ثم لا تجدها، ولكنها قد تكشفها بعد عدة محاولات بأكبر قدر من الدمار نتيجة للتلاعب بمظاهر البيئة، وذلك عندما يدفن العقاري في ليل داكن الأودية والشعاب، ثم يجيز المسؤول الفني الجريمة البيئية التي أقدم عليها العقاري، من أجل بيعها بأغلى الأسعار للغافلين عن فداحة الأخطار القادمة..
كشفت كارثة جدة جريمة التلاعب بالبيئة وطمس التضاريس عندما أجاز فنيو التخطيط المدني دفن الشعاب والأدوية، ثم إعطاء قرار السماح للمستثمر العقاري، لتحدث الكارثة الإنسانية في أول فيضان تاريخي في عصر الاحتباس الحراري في المملكة، وكان القرار الملكي بمحاسبة المسؤولين عن تلك الكارثة حازماً، لكن لوبي الجشع العقاري لا يزال يتمتع بكامل شراهته، ولم يتوقف إدمانه على الأرباح الخيالية، ولم تنحصر آثاره فقط في جدة، فدفن الأودية والشعاب يحدث في مختلف مدن وقرى المملكة، وينتظر الكثير من المواطنين يومهم الأسود في الفيضان القادم.. وعلى الرغم من وجود قرار ملكي بإزالة المباني التي في الأودية والشعاب، لا يزال من المواطنين من يسكن فيها..
يحاول اللوبي العقاري القوي الالتفاف حول القرار الملكي، إذ لا يزال بعضهم يبحث عن طريقة لدفن الأودية والشعاب في مخططاته الواسعة، وذلك من أجل زيادة أرباحه في المبيعات، ومنها أن يضغط على المهندسين والفنيين من أجل تمرير مخططاته الكارثية، ويعد ذلك أحد أشرس مظاهر الجشع في الوطن، إذ لم تجف بعد آثار كارثة السيول في جدة، ومع ذلك يحاول بعضهم بيع أكثر عدد ممكن من الأمتار في أراضيهم الشاسعة..
يكشر الجشع عن أنيابه ويصل إلى مبتغاه سريعاً، عندما يكون العقاري مسؤولاً في إدارة التخطيط الهندسي أو مسؤولاً تنفيذياً فيها، وبذلك تكتمل عناصر الجريمة ويحدث التعارض بين المصلحة الخاصة وبين المصلحة الوطنية، وبالتالي يصبح الإخلال بمصالح الوطن عاملاً مهماً في زيادة الأرباح، وقد تزداد ثروة العقاري أضعاف وأضعاف، لكن في نهاية الأمر سيكون الوطن هو الخاسر الأكبر..
يعد تداخل مصالح العقار مع مصالح أصحاب القرار أحد أصعب المعوقات التي ستواجه مراحل تطبيق القرار السامي، وتلك إحدى المشاكل التي يعاني منها المجتمع السعودي، فالجشع هو الوجه القبيح والإرادة السلبية التي ستشوه انتصار السلطة للبيئة، ولا بد من فصل تام بين جهات تخطيط المدن وبين مصالح وقوى اللوبي العقاري، على أن تتم محاسبة من يجيز فنياً دفن الأودية والشعاب بأقصى العقوبات، وذلك من أجل أن يكون هذا الوطن هو المستقبل المشرق للأبناء والأحفاد والأجيال القادمة.