أخبرني صديق بأنّ قريته لم ينلها تطوُّر بسبب حسد قومه وتنافسهم. فكلما رفع أحد وجهائهم إلى المسئولين أمر إصلاح طريق أو حاجة ونال هذا الطلب على الموافقة، قام أنداد هذا الوجيه على العمل على إيقاف المشروع باختلاق أنواع منوّعة من القصص والأكاذيب، وحذروا من فساد كبير وفتنة ستقع بين أفراد القرية إذا قام المشروع. فإذا قام المشروع على الرغم من ذلك، قام غير المستفيدين من المشروع - ولا أقول المتضررون - بنشر الدعايات الكاذبة وجيّشوا العامة والغوغاء حتى يصدر الأمر بإيقاف المشروع. قصة صديقي هذا ليست خاصة بفئة أو إقليم، بل هي بلوى عمّت وطمت في بلادنا.
الحسد العملي هو حقيقة طبعية طبع الله الناس عليها مع خلق ابني آدم قابيل وهابيل، وهو متأصل في الإنسان منذ طفولته بما نسميه بالغيرة. والإنسان لا يمكنه تغيير طبعه وخُلقه ولكنه، كما يستطيع تطوير الجيد منها، فهو يستطيع تهذيب السيئ منها وكتمه وترويضه كلما خرج عن السيطرة. وأفضل طريقة للتحكم في الغيرة ومنعها من أن تتحوّل إلى حسد ظالم للآخرين - والخطاب للفضلاء - هو أن يتهم الإنسان نفسه ورأيه دائماً في أي معاملة تجمعه مع ند له في عمل أو مهنة أو عائلة أو مركز اجتماعي، فلا يقع حسد بين الفضلاء إلاّ إذا كانوا أنداداً أو أقراناً.
الغيرة هي أساس الحسد العملي، وتهذيب هذا الطبع الفطري يخضع غالباً لتأثيرات المجتمع الذي هو صورة تطبيقية عملية للأيدلوجية التي يتبنّاها. وفي مجتمعاتنا يحسد البعض نعمة بعض ويدعو إلى زوالها حتى ولو اُستُحِقت وصَغُرت في صورة مكافأة إمام أو بيت مؤذن، هذا الحسد المتأصل في مجتمعاتنا يحكيه المثل الشعبي عندنا «يحسدون العمي على كبر عيونه».
نتحدث كثيراً فنتساءل لمَ يتحاسد أفراد مجتمعنا ونحن نزعم بأننا أهل رسالة سماوية ودين عظيم. ولو تأمّلنا في مجتمعات العالم لوجدنا أنّ انتشار الحسد العملي في أي مجتمع مرده إلى الأيدلوجية التي تسيطر على هذا المجتمع. فالتحاسد الهدام نجده مثلاً قوياً ومتأصلاً عند الروس وعند بلاد العرب كما هو عندنا، ولم أر جامعاً يجمع بين هذه المجتمعات إلا الدكتاتورية، سواء أكانت دكتاتورية الدين المتمثلة بالرأي الفقهي الواحد أو دكتاتورية السياسة أو دكتاتورية العادات أو خليط من ذلك كله أو بعضه.
عشت في الغرب عقداً من الزمن، فلم أجد هذا الحسد العملي منتشراً بينهم بهذه الصورة القبيحة عندنا. وأعتقد أنّ سبب ذلك هو انتشار الحريات في المجتمعات الغربية. فعندما تشتعل الغيرة في قلب الشخص الغربي على نجاح أخيه يلجأ إلى منافسته بتحقيق الأفضل. هذا التنافس الإيجابي يضمن نزاهته وتمحيص خيره من شره انتشار الحريات الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية والإعلامية في أيدلوجياتهم الفكرية. أما عندنا ومن هو على شاكلتنا من بلاد العالم، فلا يجد الشخص منفساً لغيرته الطبيعية إلاّ أن يحسد أخاه إذا أدركته نعمة حسداً عملياً، فيعمل على محاولة إزالة نعمته أو تحطيم نجاحه تحت مظلة الإشاعات، فالتنافس عندنا هدام وليس بنّاء، فقد عُطلت سوق التنافس الشريف عندنا بتقييد الحريات بشتى أنواعها.
الحسد العملي صعب علاجه، وزواله قد يحتاج إلى مرور أجيال بعد زوال الأيدلوجيات التي نشأ في ظلها وتغذّى على مخرجاتها، وشاهد ذلك الأقليات القادمة من البلاد الدكتاتورية والمهاجرة إلى الغرب والتي حافظت على خُلق الحسد العملي بينها رغم حياتها في الغرب. إنّ مما يجب أن لا يسكت عنه، أنّ الإصلاح في بلادي لابد أن يقوم على تحجيم الحسد العملي عملياً بتفنيد شائعات الفساد التي تنخر في المجتمع، وتكاد أن تُحبط عملية التطوير والبناء.
hamzaalsalem@gmail.com