بات الكثيرون من المهتمين بحقل التنمية العمرانية وإدارة المدن يستخدمون مصطلح «الكائن الحي» لوصف المدينة باعتبارها منظومة حياتية متكاملة تنمو وتتطور في قالب مكاني محدد يؤثر ويتأثر في علاقته مع شكل المدينة ووظائفها ومحدداتها، وكلما ازدادت المدن نموا زادت مشكلاتها الحضرية سواء على المستوى المجتمعي أو المكاني، حيث تبدأ العلاقات بين وظائف المدينة تزداد تعقيدا كلما زاد عدد سكانها واتسع نطاقها الخدمي، ويمثل هذا أمرا طبيعيا منذ نشأت المجتمعات العمرانية على مر التاريخ، وهذا ما كان من شأنه ظهور عدد من نظريات التخطيط العمراني التي حاولت معالجة المشكلات الحضرية التي تنشأ عادة مع الزيادة في حجم المدينة وإيجاد الحلول المثلى لها وفقا لخصائصها العمرانية، إلا انه ومع مرور الوقت تزداد الحاجة الملحة إلى «حلول عملية» وفق منهجية علمية تمثل نظما معرفية في دعم اتخاذ القرار داخل المدينة وتقديم البدائل المتاحة والمساعدة في اختيار البديل الأفضل ولاشك أن أفضل وسيلة لذلك هي العمل على تطوير هذه المدن وحل مشكلاتها من خلال سياسات تنموية «متطورة» يوظف فيها البحث العلمي كأداة أساسية لتفعيل هذا التوجه بمختلف جوانب هذا البحث Applied Researches أو Action Research أو R AND D من خلال بيوت الخبرة والجهات الاستشارية ذات التجربة العلمية والعملية. فالأجهزة المعنية بإدارة المدينة - بمختلف قطاعاتها - لن تكون قادرة على الإيفاء بمتطلباتها وحل مشكلاتها في المستقبل عطفا على عدم كفاية مستوى كوادرها الإدارية والفنية وضعف المخصصات المالية وبيروقراطية النظام، بالإضافة إلى غياب جهاز التنسيق العام (الفاعل) على مستوى التنمية.
ربما يرى البعض أن توظيف البحث العلمي في تطوير وإدارة المجتمعات العمرانية يعد ترفا وتنظيرا وأسلوبا ثانويا، ولكني هنا أتساءل: ماذا قدمت لنا «الواقعية» البحتة طوال السنوات الماضية؟ وماذا جنينا من وضع البحث العلمي في أدنى أولوياتنا؟ وماذا استفدنا من اتخاذنا لقرارات خارج إطار المنهجية العلمية؟ بالتأكيد الإجابة واضحة وعلى أرض الواقع فنحن نعيش نتائج ذلك من خلال مجتمعات تطغى عليها السلبية وغياب الرؤى المستقبلية المقننة. إن مشاهدتنا ومعايشتنا لبعض تجارب أساليب إدارة المدن في بعض دول العالم ودور الجامعات المشترك معها وتفاعل المجتمع بكافة شرائحه يصيبنا بشيء من «الإحباط» مقارنة بما نعيشه من واقع إداري ومجتمعي يحتاج إلى إعادة تأهيل ومعالجة فورية، لقد آن الأوان إلى أن نكون أكثر جرأة وأكثر انفتاحا على كل ما من شأنه الرقي بمجتمعاتنا وتحضرها، وأن نتجاوز الأفكار الإدارية المنغلقة والمتراكمة بسلبيتها على جسد التطوير والتنمية.
لذلك تبرز الحاجة إلى تبني أساليب إدارية متطورة تعتمد على «المؤسسات» وليس على «الأفراد» في إدارة المجتمعات العمرانية وأجهزة إدارة التنمية وذلك بالتعاطي مع «حلول مبتكرة وغير تقليدية» في إطار الإمكانيات الحالية المتاحة - مهما كان مستواها ودرجة كفايتها - لأنه لا بديل لذلك «فمن خلال تجارب العديد من الدول التي سبقتنا في حقل التنمية المكانية والقطاعية نجد أن أفضل المدن الصالحة للعيش على مستوى العالم والتي كان لها تجارب رائدة في التطوير والتنمية هي تلك المدن التي كان لها شراكات فعلية واتفاقيات عمل مع الجهات الأكاديمية وتحديدا «الجامعات» التي باتت تمثل الركيزة الأساسية لبناء مجتمع المدينة في عصر يشهد تحولات ومتغيرات كبيرة وسريعة. فالجامعات تجاوزت وظائفها التقليدية في التعليم إلى مجال أوسع وأرحب حيث البحث العلمي وتوظيفه في خدمة المجتمع، وتعتبر قيادة التطوير والتغيير في أجهزة إدارة المدينة بمثابة أولوية قصوى في هذه المرحلة. لذلك فجامعة المجمعة - على سبيل المثال - ستمثل مستقبلا «قلب المدينة النابض» لمحافظة المجمعة والتي تمثل مركز نمو وطني في إطار خطة التنمية المتوازنة، وستكون الجامعة مصدر توجيه التنمية والمحرك الرئيس في نقل وتوطين التقنية والحلول العلمية والعملية لبناء وتطوير المجتمع إذا ما أفردنا لها مساحة كافية في المشاركة في التطوير والبناء، فالحاجة ملحة اليوم لتجاوز التقليدية واستبدال بيروقراطية الأنظمة بأسلوب أكثر فاعلية يعتمد بالدرجة الأولى على الفكر والبحث والدراسة وتوظيف المعرفة في كل جوانب إدارة المدينة، وإذا ما كانت الحاجة ملحة لذلك فلا حاجة بعد اليوم إلى البحث عن بيوت خبرة وجهات استشارية قد تكلف ميزانيات كبيرة وقد تكون بعيدة عن واقع الحقل في ظل وجود صرح علمي كبير مثل جامعة المجمعة.
إن إشراك الجامعة في قضايا المدينة الأساسية بات مطلبا أساسيا سيساهم في تطوير ثقافة العمل في أجهزتنا الإدارية وتنمية قدراتنا المحلية والارتقاء بأساليب ومنهجية اتخاذ القرار بصورته العلمية الصحيحة، إن أجهزة إدارة المدينة بحاجة فعلية إلى شراكة حقيقية مع جامعة المجمعة لتحقيق ما تصبو إليه من تطلعات مستقبلية وطموحات بعيدة المدى. فنحن بحاجة فعلية إلى تطوير عقلية التنمية التي نمارسها في إدارة المدينة وذلك بشراكة عامة مع كافة شرائح المجتمع فعصر البيروقراطية والتقليدية قد ولى ولا يجب أن يعود، لا سيما أن بيئة العمل اليوم في مدننا ومع المتغيرات النوعية التي حدثت في نمطية التنمية - لم تعد مثالية - وباتت مليئة بالمعوقات والتحديات، وكثير من أجهزتنا الحكومية لازالت تعاني من ضعف في هياكلها الإدارية، وتقادم في الأنظمة والإجراءات وأساليب العمل، لذلك فإعادة هيكلة الأنظمة الإدارية داخل هذه الإدارات أمر هاما لتفعيل دور هذه الأجهزة ولن يتأتى ذلك إلا من خلال البحث والدراسة والتحليل العلمي المتخصص.
إن سكان المدن اليوم لم تعد درجة انتمائهم لمدنهم كافية لأن مدنهم لم تمنحهم شيئا ملائما ولم توفر لهم بيئة صالحة للعيش لذلك لا غرابة أن لا يمنحوها ذلك الانتماء الكافي، فنحن اليوم نطالب ساكن المدينة أن يتفاعل مع خططنا وسياساتنا المستقبلية بعيدة المدى وهو يعاني من الكثير من السلبيات في محيطه العمراني. إذن كيف يمكن أن نطالب سكان المدينة أن يكونوا مثاليين في ممارسة دورهم في تطوير مدينتهم في وقت لم نستطع توفير مدينة صالحة للعيش لهم، ثمة حلقة مفقودة في هذه المعادلة، فالإيفاء بحقوق ساكني المدن هو الهدف الرئيس من بنائها، لذلك فالواقع يحتم إيجاد حل عملي لهذه المعادلة بما يحقق توفير الخدمة المستحقة لساكني المدن، ومن ثم تطوير أسلوب مشاركتهم في بناء مدينتهم بصورة مقننة وعلمية، ويكمن الحل في رأيي بممارسة العمل بأسلوب «الإدارة المفتوحة»، وتفعيل مفهوم الجامعة المنتجة Entrepreneurial University والإنفاق على البحث العلمي الجامعي University Scientific Research Funding من قبل مؤسسات المجتمع وخاصة القطاع الخاص وكذلك منح الجامعة مساحة أكبر ودور أفعل في مساعدة إدارة المدينة - بمختلف قطاعاتها - لتقديم الحلول لاستغلال الموارد المتاحة - مهما كانت كفايتها - في بناء مدن صالحة للعيش تتوافر بها مقومات الحياة، فالجامعة ستثبت الأيام القادمة أنها مصدر التنمية والتطوير وهي القلب النابض لحياة المدن.
م. بدر بن ناصر الحمدان
باحث متخصص في علوم التخطيط والتصميم العمراني وإدارة المدن رئيس بلدية محافظة المجمعة
Badr888@hotmail.com