رحل عن دنيانا معالي الدكتور غازي القصيبي، وكان رحيله مصاباً جللاً، أصاب محبيه بالأسى والحزن.
أعتقد أنه يصعب على أي شخص أن يوفي القصيبي حقه ويعجز القلم عن تعداد مواهبه ومآثره وما قدمه لدينه ومليكه ووطنه..
... على مدار تسلمه لعدد من المناصب القيادية.
أنا عملت معه في بداية حياتي الوظيفية في وزارة الصناعة والكهرباء لمدة قصيرة في أواخر التسعينيات الهجرية، وعلى الرغم من قصر المدة إلا أنها كانت ثرية وتعلمت من قيادته وإدارته للأمور الكثير، ويحضرني هنا بعض المواقف واللفتات التي لا زالت عالقة في ذهني وكان القصيبي فيها مبادراً، فهو من أوائل من طبق مفهوم التفكير خارج الصندوق.
ومن المواقف التي أود إشراك القارئ في استعراضها، طلبه - رحمه الله - في بداية عام 1399هـ من كل موظف في وزارة الصناعة والكهرباء بأن يعدّ مذكرة يفصح فيها عن همومه وتطلعاته ومقترحاته التي يرى مناسبة تطبيقها لتطوير العمل في الوزارة، ثم أتبع ذلك بمقابلة كل موظف على حدة في مكتبه في الفترة المسائية. وقد كان اللقاء أخوياً وصريحاً وشفافاً، حاول فيه - رحمه الله - تحقيق ما يمكن من مطالب الموظفين. ولعمري فقد كانت تلك قفزة في عالم الإدارة، التي إن دلت على شيء فإنما تدلّ على تأصل المعاني الإنسانية في شخص الدكتور غازي من ناحية، ووجود النظرة الإدارية الثاقبة من ناحية أخرى، وهذا ليس بغريب عليه - رحمه الله - باعتباره الشاعر المرهف والإداري المتمرس.
ومن المواقف أيضاً، حينما طلب من المقام السامي الكريم الموافقة على منح كل موظف من منسوبي وزارة الصناعة والكهرباء أرضاً سكنية، ووافق المقام السامي على منح الموظفين الواردة أسماؤهم بالقائمة المرفقة للأمر السامي. وكان أن انتقل عدد قليل من الموظفين للعمل في جهات أخرى بعد صدور الأمر السامي الكريم وقبل إفراغ الأراضي للمستفيدين. فاقترح عليه البعض إسقاط أولئك من القائمة بحكم أنهم لم يعودوا من منسوبي الوزارة. وكانت ردة فعله - رحمه الله - فورية وحاسمة، بأن وجّه صاحب الاقتراح وكلفه بالتواصل مع أولئك الموظفين حتى استكمال إجراءات إفراغ الأراضي لهم.
هناك ما أسميه طريقة غازي في التوجيه، إذ كان - رحمه الله -يبدأ أي توجيه ولأي موظف مهما كانت مرتبته بكلمة (أرجو)، وكان أسلوبه هذا محل انتقاد بعض أساطين البيروقراطية، الذين ترعرعوا على استخدام كلمة (أرجو) فقط لمخاطبة من هو أعلى مرتبة ومنزلة، أما إذا كان الشخص في نفس المستوى فيتعين استخدام كلمة (آمل) أما إذا كان الشخص أقل مرتبة فإن الكلمة المناسبة للمخاطبة هي (اعتمدوا). ولاشك أن استخدام كلمة (أرجو) في مخاطبة الكل من قبل الدكتور غازي، تنم عن ثقته المطلقة بنفسه من ناحية، وتواضعه الجمّ من ناحية ثانية، وتأصل المعاني الإنسانية والودية في تعامله مع الغير من ناحية ثالثة. وأنا ومنذ ذلك التاريخ لم استخدم سوى كلمة (أرجو) في جميع مخاطباتي ومراسلاتي.. ونظراً إلى ما يتمتع به الدكتور غازي - رحمه الله - من حضور آسر ودعابة وبديهة، فإن ذلك ينعكس أحياناً على تناوله للموضوعات اليومية التي تعرض عليه. وهناك قصة تروى أن موظفاً في الوزارة اسمه (صالح) تقدم بطلب الموافقة على حضوره دورة تدريبية خارج المملكة، فوافق معالي الدكتور غازي على طلبه ووجّه بإعداد القرار اللازم. وكان أن عُرض عليه القرار للتوقيع، وعند استعراضه لمشروع القرار لاحظ أن اسم الموظف في القرار هو (ناصر) وليس (صالح) فما كان منه رحمه الله، إلا أن يعلق على القرار بالعبارة التالية (من بدّل ناصر بصالح، إنه عمل غير صالح).
رحم الله غازياً وأسكنه فسيح جناته، لقد كان - رحمه الله - محل ثقة ولاة الأمر حفظهم الله بدءًا بالملك فيصل ثم الملك خالد ثم الملك فهد رحمهم الله جميعاً، وأخيراً حظي بثقة ملك القلوب خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز أطال الله في عمره وأدام عليه ثياب الصحة والعافية.