جاءت قراءة ديوان «خمول في زمن الازدهار» في عدد 12928 من جريدة الجزيرة الصادر يوم الأربعاء 13-2-1429هـ (20-02-2008م)، على غير المألوف من النّاقد الكريم في قراءتي ديواني: «الإنسان ذلك الشيء» و «ثمار الإنهاك»؛
|
إذ قلّت فيها شوائب النّقد الغريبة التي لحقت بهما. أقول هذا رغم أنّ أول ما فاجأني في هذه القراءة هو تغيير اسمي من ظافر إلى طاهر. وقد حصل ما هو أكثر من هذا من قبل؛ حيث كانت تأتيني إحدى الصّحف في أمريكا في أواخر القرن الميلادي المنصرم مكتوب عليها «فر علي القرني» فتكرّم من تكرّم، بعد أن رأى غرابة الاسم، وقاسه على مخزونه الثّقافيّ المختلف، فوضع على العين نقطة، فأصبح الاسم «فرغلي القرني». فكنت أول فرغليٍّ في بني قرن منذ الهجرة الأولى في غابر الزّمن. وقد شهدتُ، في مكان آخر، تحويل اسم غرم الله القرني إلى قرملي القرنيّ، من صاحب ثقافة مؤهلة لهذا التّحويل. وقرملي مثل فرغلي لا وجود لها في مألوفنا من الأسماء؛ على أنّك تجد عندنا زيلعي. والحمد لله أن النّاقد الكريم أبقى على آخر الاسم هنا ولم يجعله الأحسائي أو زمخشري، فقد سمّاني الجهني من قبل؛ ولو فعل ذلك لما أبقى في الاسم من باقية.
|
نقف، بعد هذه الملاحظة، عند بعض القصائد التي استشهد بها، وأشاد، واقترح بعض التّغييرات في شيء من كلماتها، شاكرًا له الثّناء والإشادة، ومبيّنًا وجهة نظري في بعض ما قاله. ففي قصيدة «العقبى لمن؟» استشهد بمقطع منه قولي: «في فلسطين وأرض البوسنة - وسواها من بلاد المسلمين» ولم يكمل بعبارة: «البلاد الموهنة». وهي مهمّة هنا، لأنّ القارئ لا يبحث فقط عن المعاني، بل يبحث أيضًا عن الجمال اللّفظيّ في البيت والقافية، فبهما يُقبل المعنى إليه إقبالاً، أو يُزفّ إليه زفًّا.
|
وجاء إلى قصيدة تنومة التي منها:
|
«ماذا أقول وأنت أجمل من قصيدة كلّ شاعر |
ولأنت أبلغ في العبارة من عبارة أي ناثر» |
فاقترح كلمة «جمالك» بدلاً من كلمة «عبارة» الأولى لورودها مرتين في البيت. وهذا اقتراح مقبول؛ فقد كتبت البيت أول ما كتبته:
|
«ولأنت أبلغ يا تنومة من عبارة أي ناثر». فلمّا خفت ملل القارئ من تكرار اسم تنومة في القصيدة جعلت جملة «في العبارة» بدلا منه. وقد ينقسم القراء بيني وبين الأستاذ سعد؛ لأن منهم من سيقول إذا جعلناها «جمالك» كان الأفضل أن نسبقها ب»أحسن» بدلاً من «أبلغ»؛ والأمر فيه سعة. وفي قصيدة «العربي العبري» نقل منها مقطعًا فيه هذان البيتان، دون ترتيب:
|
«ألا لا تثر وجدي أيا أيّها القمري |
فما عاد يغري الوجه نثري ولا شعري» |
«طغى الغرب في الآفاق حتّى تفقوا |
علينا وما زالت نواميسهم تجري» |
فكلمة الوجه، في البيت الأول، هي الوجد؛ وتفقوا، في البيت الثاني، هي تفوّقوا. وعلّق بقوله: (طغى) كلمة لا تتناسب وسياق البيت.. حسناً لو جاءت (سعى الغرب) خصوصاً أن الحديث عن التقدم العلمي والصناعي». وعندي أن طغى أحسن لما كان من الطغيان، ولما هو مستمرٌّ منه، ولوجه بلاغيّ أحببته؛ وإن كانت «سعى» مناسبة لفكر سنوات خلت لا نعيش مثلها اليوم. ثم قال: «وشاعرنا لم يتوقف عند هذا المعنى، بل تجاوزه إلى ما هو أقسى:
|
فسماهم الغِر الحضارة والندى |
وسماهم المزري بنا العالم السحري |
نقول إذا قالوا ونسعى إذا سعوا |
وإن كان في السعي الإهانةُ للصهر» |
وعلّق بقوله: «(للصهر) لا أعلم ماذا يعني بها؟ أهي المصاهرة؟! حسنًا لو أحل مكانها كلمة (القدر)؛ فهي أكثر وضوحًا وتجانسًا في المعنى».
|
هنا لا أوافق النّاقد وأعجب من تساؤله. فإذا كان الشّاعر لا يستطيع أن يسرد كلّ أصحاب العلاقة، كالجار والعم وابن العم والخال وابن الخال، لقيود البيت والقافية؛ فما المانع أن يكتفي بالصّهر عن كلّ هؤلاء. وما دام الرّمز لا غموض فيه، ولا خلل ولا غرابة فما وجه الاستنكار هنا؟ ألم يقل الرّسول صلّى الله عليه وسلّم: «استوصوا بأهل مصر خيرًا فإنّ فيهم نسبًا وصهرًا»؛ فهذه العلاقة أوجبت حسن المعاملة، وهي كافية؛ أليس في المصاهرة علاقة قربى قويّة تنوب عن غيرها من العلاقات الأخرى؛ مع أنّ مصر ليست بمقصودة في هذا البيت. ثمّ إن كلمة القدر توهن المعنى، فيما أرى، ففي الصّهر نحيل إلى مُعيّن، بينما في القدر لا نحيل إلى مثله.
|
|
«إذا جاوزوا الجوزاء بغيًا وغايةً |
فدرّب ركاب العلم في الكوكب الدّري» |
فقال عنه: «هذا البيت يفتقر إلى صياغة أكثر تقبلاً.. فمجاوزة الجوزاء ليست بغياً بل هي سعي وغاية مطيتها العلم بكل أدواته الحسية والمادية التي نتمنى أن نصل إليها بعلمنا وعملنا.. أقترح إبدال كلمة (بغيا) ب(سعيا)». أقول: في أيّ عصر تعيش أيّها النّاقد المتمرّس؟ بل ما زلت أرى أن أكثر دافع سعيهم البغي؛ وفي عصرنا الحاضر خبر ذاك منهم أشدّ النّاس حبًّا لهم وتوددًا؛ إذ بلغ العدوان منهم ما رآه الأعمى وسمعه الأصم. والبيت معناه راقٍ وحلّته جميلة. وفيه من التّحفّز للرّقيّ والتّفاؤل ما لا يعذر النّاقد في تجاوزه، كونه وقف عند محطات أخرى من شعر الشّاعر وانتقد نظرته القاسية للحياة وللنّاس. وقد رأيت البيئة التي أتحدّث عنها من قرب وكتبت من داخلها، في منتصف الثمانينيات من قرنها المنصرم، بعد أن رأيتُ ما رأيت وسمعت ما سمعت:
|
«هل يا ترى الجنّ في شرقي لهم هدفٌ |
أم استوى عندنا الإنسان والجانُ |
لا ينهض الشّرق إلاّ بعد كارثة |
يجثو على سورها بومٌ وغربانُ» |
وهما بيتان من قصيدة نشرت في إحدى الاصدارات المحليّة لبعض الطلبة المبتعثين آنذاك. ثمّ اطّلعت بعد التّخرّج، بحكم التّخصص، على دور طبيعة الأرض في المعارك، ووسائل الجيوش في التّغلّب على ما تجده من صعوبات؛ فأيقنت أن الأمم الضعيفة لا بدّ لها من أن تكون فريسة شاءت أم أبت. ولأنّ العنف ممقوتٌ في عالمنا المشهود، فإنّ لها مطلق الحرّيّة في اختيار الطريقة الّتي تكون بها فريسة؛ فإن شاءت كانت بسلام وإن شاءت كانت بغيره. وعليها أن تتحمّل المسؤوليّة كاملة في حال سوء الاختيار. أتريدني بعد هذا، يا أستاذ سعد، أن ألين في العبارة؟!
|
وما يحمد للنّاقد أنّه ظلّ صابرًا هذه المرّة، على غير ما ألفناه منه، ليكمل القصيدة ويقف عند معنى عنوانها في البيت القائل: «إذا نحن لم نجفُ الفساد بفعلنا - سنبقى إلى أن يعرب العربُ العبري».
|
الّذي يظهر أنّ النّاقد شرع في الاقتراب من شعر الشّاعر بعد رحلة ليست بالقصيرة. دعونا نواصل المسير مع الخمول فلعلّه أن يستمرّ لنا هذا النّشاط غير المعهود فيما مضى من قراءات.
|
أستاذ الهندسة المساحيّة - جامعة الملك سعود |
|