يرجح الناقد الدكتور جابر عصفور في مطارحته النقدية «زمن الرواية» التي صدرت منذ أعوام أن المبدع السعودي الراحل غازي القصيبي يرحمه الله يُحَيِّرُك في رؤاه وطروحاته، وعطائه الإنساني الذي رغم تعدد مناهله وتشعب صوره لا يختلط بعضه بعض، إنما يتقن فن الإبداع في كل مجال على حدة دون أن يلمح القارئ أي تشابك أو تداخل.
من هذه المقاربة النقدية نقف بالفعل على حقيقة فَنٍّ وعطاءٍ كان يتقنه القصيبي يرحمه الله وهو العطاء الإبداعي الواقعي.. ذلك الذي لا تجد فيه أي طغيان لفن ما على الآخر، أو تداخل مقصود أو غير مقصود لفكرة إدارية بما سواها من منطلقات معرفية أخرى.
فإذا ما تأمل القارئ تجارب القصيبي في عالم الإدارة حتما فإنه سيلفيه متجلياً على تلة الوعي العالية، لان اعتاد أن يدلي بآرائه بصراحة متناهية، ويمد جسور تواصله مع أي منجز دون أي خيالية أو أي استشهاد محتمل بأي حالة خيالية، أو فرضية نظرية حالمة، قد تجعله يجزم أنها قيلت من قبل شاعر حالم أو كاتب يزاوج بين الواقع والخيال، إنما تراه في الغالب الأعم صارم مع الشعر في رؤى الإدارة، ومتجلٍ في الإبداع الجمالي والكتابي مع الفكرة والخيال.
وقد يعجب القارئ أن يكون هذا المبدع (غازي) شخص واحد يخوض غمار رؤى كثيرة، حيث يتقن فن العوم في بحار الكلمة والمعلومة والرؤية الواقعية الخالصة، لكنه إزاء أمر كهذا لا يجد مندوحة من الإذعان لفرضية المقاربة والمزاوجة بين الفكرة وواقعها والبيئة من حولها.
فمن رؤية الناقد جابر عصفور حول تجربة الراحل غازي القصيبي فإن القارئ الفاحص، والمتتبع الحاذق يدرك أن تجربة هذا الرجل قوية ومؤثرة، ورؤاه ثاقبة، وطروحاته متقنة لا سيما عزفه الشعري على مواطن الضعف الإنساني، وتجلياته المعرفية في سبر أغوار الحلول الناجعة عن أي أمر يحقق معادلة التميز والواقعية في زمن باتت فيه الرؤى متقاربة تواءم بعضها بعضاً حتى حدود المبالغة في الحيادية، إلا أن القصيبي ظل وفياً لواقعيته في بناء حقيقة الحاجة إلى من ينتقد ويصلح في آن واحد حتى بات هذا الشعار مذهباً من مذاهب فنه وعشقه للإدارة والكلمة.
في رحيل غازي يفقد المشهد الثقافي السعودي أستاذ جيل لا بأس فيه ممن عملوا على صنع معادلة النجاح في زمن قد تتعثر فيه الرؤى المحفوفة بمغبة الخوف من خوض التجربة لما قد تجلبه من منغصات الفشل، فكان القصيبي علامة مميزة لجيل قد امتد لخمسة عقود برع فيها مع من حوله في بناء قدرة الإنسان على الفعل والتجلي.
المتأمل لمسيرته يرحمه الله يقف عند هذا الزخم الهائل من التجارب التي حالف الكثير منها التوفيق، فكانت إيذاناً بأن يولد من تجارب هذا الجيل عطاء ناضج نباهي فيه، لا سيما مشهدنا الثقافي والمعرفي الذي أدلى القصيبي بدلوه فكان عطاء ثرياً ونتاجاً إبداعيا وصل إلى القارئ لأنه لم يكن من قبيل التجريب إنما تجلت فيه أبهى صور الواقع وأعمق رؤى المعرفة وحسن الاختيار، فاستطاع فيها هذا الشاعر والأديب أن يقيم للشعر السعودي ديوانه الجميل، وأن يختط للسرد رواية وقصة أبرز مقومات النجاح والتألق.
ولا أدل من ذلك إلا نجاح روايته «شقة الحرية» التي جاءت على هيئة إيذان بتحول الكتابة من خيال ورؤى جانبية إلى عرض معرفي نابه يعمد إلى الحقيقة حتى وإن كانت من قبيل الاستطراد في المقولات والحكايات الماضية التي رأى فيها الراحل يرحمه الله أنها صالحة لهذا الزمن، فكانت جرعة أولى من جرعات كشف الخباء عن صور التجارب الإنسانية للإنسان في هذه البلاد التي ظلت الرؤية الجامدة عنه أنه (كامل - مكتمل) إلا أنه استطاع بحكمة وخبرة أن يستنبط لنا ما ظل ينادي فيه من تحول وتطور لا يخلو من مصارحة في بناء العلاقة بين المثقف وبين فعاليات المجتمع من أجل أن تتحقق بعض الأهداف وهذا ما شكل جدلية القصيبي في بناء العطاء الإنساني.