ما الذي دهى فضائيات العرب خلال رمضان الكريم؟! إذ يلفت انتباه من يتنقّل بين هذه المحطات أن روائح الثوم والبصل والكراث والبهارات تصدر منها مختلطة بروائح زيوت القلي وأدخنة الشواء وألوان العصائر الصناعية المضرة بالصحة خاصة إذا تم تناولها مع شرائح البطاطس المحفوظة بمواد أشد خطراً على صحة الأطفال, وتكثر برامج العجن والعصر والطبخ في الفضائيات التي دخلت مجال الإعلام وهي لا تعرف تفسير كلمة (الإعلام) ولا تدرك جيداً الرسالة الإعلامية المنوطة بها, وكان هدف القائمين عليها مجرد الدخول لسوق الفضاء للكسب المادي ولا فرق عندهم بين افتتاح قناة فضائية أو مطعم وجبات سريعة فكلها غالباً تقدّم أشياء عديمة الطعم قليلة الفائدة تعتمد عروضها على الديكور والأضواء ولمسات تجميلية قد لا تكون مدروسة جيداً.. وبعض هذه المحطات ليست لديها أي خطة برامجية أو هيكل مجدول لتقديم منتجها الإعلامي، بل ليس لها أي منتج فهي فقط تعيد وتكرر مقاطع فكاهية وأغاني (غوغائية فنياً) بمعنى أن الفن والتطريب في واد وهم في واد آخر, وبين ما يسمونه كوميديا وفكاهة وغثاء الغناء تدخل صحون الباذنجان والكوسة وتوابعها وحتى توقيت عرضها لم يكن موفقاً دائماً، ولإحساس القائمين على ذلك بأن مشاهديهم - إن كان لهم جمهور يشاهد - قد ملوا مشهد تقطيع البصل والخيار ابتكروا طريقة (الاستهبال مع الطبخ) بأن يأتي مستظرف أو مستخفة لدمها وترافق الطباخين بنكات وحركات سامجة باهتة ربما كانت أكثر تنفيراً للمشاهدين.
واستوقفني تقرير إعلامي متلفز يعرض نشاط مطعم غربي متخصص في إعداد نوع من الخبز بالخضار وملحقاتها المسمى عندهم في الغرب (بيتزا)، ومما يلفت الانتباه ما أضيف إلى هذه المعجنات من ابتكار جديد، حيث تشاهد الطاهي أو الخباز يضع أنواعاً فاخرة من الكافيار ثم يزيِّن كل ربع فيها بزينة ومذاق مختلف عن الأرباع الثلاثة الأخرى، وهذا مشوّق ويفتح الشهية، غير أن التقرير قد ختم بنهاية قد تصد النفس وتقفلها عن تشهي هذه البيتزا لا لشيء يسوء إعدادها، إنما بسبب عد نقود ثمنها الذي يوازي مرتب عامل آسيوي لعدة شهور، أو مرتب شاب سعودي كد وتعب حتى نال شهادة جامعية في تخصص عصري، لكن ليعلم أي شاب طموح أن الحياة كفاح وأن من بدأ براتب يعادل بيتزا المليونيرات في بلاد الغرب خير ممن بدأ حياته من بعض أجدادنا بما يقوِّم أوده ويسد جوعه ببضع تمرات وشيء من الأقط، ومن حاز تمراً آنذاك كمرتب يومي لقاء جهد نهار كامل فهو من السعداء، ومن يعيش الآن مع جده أو والده المعمّر فليسأله عن بعض تلك الحكايات، وقد لا يصدق بعض فتياننا أن من أجدادهم من أكل (القد) وجلود الذبائح وسحقوا عظامها طلباً للزفر.
رحم الله جداتي وأجزل لهن المثوبة لقاء ما قدمن لنا من خبز تنور ومراصيع وقرص عقيل وكليجا وخبز الجمر وغيرها التي كانت تعدل عندنا ألف بيتزا، وهي ألذ وأطعم حينما تكون من أيدي أولئك الطاهرات الصالحات.