Al Jazirah NewsPaper Monday  23/08/2010 G Issue 13843
الأثنين 13 رمضان 1431   العدد  13843
 

نظرة ما
لا تصالح !
جارالله الحميد

 

كنت في القاهرة يوم زار الرئيس المصري الراحل (أنور السادات) القدس المحتلة وألقى خطاباً في الكنيست (البرلمان) الصهيوني. داعياً إلى عهد جديد ومختلف في الصراع بين الكيان الصهيوني والشعوب العربية وخاصة شعب مصر العظيم. كنت أسير مع الراحل الكبير أمل دنقل وكانت معه نسخة مهرّبة ذات اليوم من (السفير) اللبنانية وعلى صفحتها الأولى كلها قصيدة أمل بعنوان (لا تصالح!) وقال لي أمل إنّ هذه القصيدة مكتوبة قبل ثلاث سنين وأنّ عنوانها الحقيقي هو (وصية كليب) وهو طبعاً لا يعترض على جريدة السفير لأي من السببين، قال لي إنه يكفي أن تكون روح الأمة العربية قادرة على العودة لتاريخها الذي جرى اجتزاؤه وقصّه ولزقه وانتقاء ما كان منه يلائم ذائقة العالم الحر.

(لا تصالحْ ولو منحوكَ الذهَبْ

أتُرى حين أنزع عينيك ثم أركّب جوهرتين مكانهما

هل تَرى ؟!

هي أشياء لا تشترى!!!)

كنا نسير مثل غريبين فشوارع القاهرة الكبرى خالية من الناس. ولم يكن ثمة أحد يتسكّع بنفس قدرتنا على التسكُّع. إنّ التسكُّع كان رد الفعل الذي صادف أن كنا معاً نعيشه. مفردات اللغة ليس يمكنها التعبير عن مدى الخسران الذي ألمّ بالأمة العربية وهو خسران على كل الأصعدة. وليست الخسارة وحدها تلك العسكرية بل كل ما ينشأ منها من خسارات. وكانت الكوليرا تتفشى في العالم العربي وتمارس الجهات المسئولة التعتيم على ضحاياها، ولكن ثمة عدداً من الضحايا ليس يمكن التعتيم عليه لأنّ الله (أحصاهم وعدّهم عدّا)، ولأنّ فلاشات المصورين اللابسي صديريات مدرعة تجوس خلال الأرجل المبتورة والرؤوس المحطمة والدم الذي يشبه فيضانا من البنزين

(لا تصالح على الدمّ

حتى بدمّ

فما الصلح إلا معاهـدةٌ بين ندّين وفي شرف القلب لا تنتقص!

والذي اغتالني: محض لص!

سرق الأرض من بين عينيّ والصمت يطلق ضحكته الساخرة)

لم يكن المرحوم أمل دنقل شاعراً انطباعياً لكنه كان شاعراً رؤيوياً. ووظّف في قصيدته هذه قصة جساس مع أعدائه وأعداء أخيه كليب وفي إطار يسير حذو المشكلة الرئيسية الآن - أو تلك الأيام - بكل حمولات الرمز الذي أخرج الشعر من بئر التقليدية ليضعه جنباً إلى جنب تجارب عالمية في ظروف مكابداتها مع من يريدون تدميرها بغضّ النظر عما تمثله للحضارة من سيرورة. ومصر التي دوماً خرجت تغني من رحم الشجن والابتلاء أقوى وأكثر عناداً ستظل مصر العرب لا مصر الفئويين. لأنّ العرب عرفوا مصر إبان انتفاضتها وتحوّلاتها الثقافية والإنسانية. والسر الكبير في مصر أنها تعيش تهزأ بالهزائم الوقتية وتعدّ رجالها وأناسها كلهم لانتصار كبير يعيد للأمة عذوبة نيل لم تلطّخه أيادي البلطجية ومهربي الممنوعات ووثائق السفر. نيل يمرّ على النعسان فيوقظه رقيقاً. ويفوح عطراً على الشوارع فينزع منها رائحة العادم. ومصر التي تكتب والتي تطبب والتي يتجمّع فيها الموهوبون من كل اتجاه. تجمعهم مصر الكبيرة التي ندعو الله ألاّ تصاب بمكروه لأنه سيصيبنا بالطبع.

كنت وأمل ليلاً نستعيد ذكرى حزيران وأغنية

أيها الساري إلى مسرى النبي

ونجيّ الوطن المغتصب

هل على الصحراء من أعلامنا

مهبط الوحي ومسرى الكوكب

فتمرنا قشعريرة الورد. تلك القشعريرة التي تجعل الدم يشوى العروق ولكنه لا يستطيع أن يبرح مكانه.

وبعد كل صمت طقوسي يردد أمل

(اذكريني، كما تذكرين: المهرّبَ، والمطربَ العاطفي، وكاب العقيد، وزينة رأس السنة!!!). فأطلب منه ألاّ يتوقف ويرد قائلاً إنك تدري كم ان جرحك كبير فلم تمنع عنه الملح؟. دعه يرتوي وجعاً فما أطال النوم عمراً وما قصر في الأعمار طول السهر!

كل عام يمر يا أمل نظن أنّ الحرب ستنتهي ونظن أننا سنحلب ماشيتنا ونظن أننا سنشرب حليبها فما نرى إلاّ وشركات مص الحليب الأجنبية تطارد ثديياتنا في الأزقة ومعها جرادل ستملؤها لبناً وتبيعه على السادة كاتبي سيناريوهات أفلام الرقص على الثعابين وأفلام بائعي المخدرات الذين يتجشأون لكبر اللقمة وللزور الذي يوماً سيعلن زورا!

يا مصر يا حبنا !

Jarallah_al7maid@hotmail.com

 


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد