إن المحادثات المباشرة بين الزعماء الفلسطينيين والإسرائيليين هي السبيل الأكثر وضوحاً لجلب السلام إلى الشرق الأوسط وإنهاء الصراع. ولكن التاريخ أثبت مراراً وتكراراً أن عملية السلام التي تحظى بتغطية إعلامية كبيرة لا تكفي وحدها كوصفة للنجاح.
ينفي مسؤولون فلسطينيون أي جدوى من إجراء محادثات مباشرة لا تشكل أكثر من فرصة لالتقاط الصور والشهرة ولا يقصد منها سوى خلق انطباع بوجود عملية سلام، وتجنب أي التزامات موضوعية في الوقت نفسه.
فبالنسبة للفلسطينيين، لابد وأن تشتمل أول خطوة نحو محادثات سلام حقيقية على اتفاق ما بشأن القضايا الأساسية مثل الحدود والأمن. ولقد قدم الفلسطينيون لنظرائهم الإسرائيليين (عبر المسؤولين الأميركيين) عرضاً مكتوباً يتضمن التخلي عن الأراضي التي احتلتها إسرائيل في عام 1967 والتي أصبحت الآن مأهولة بمستوطنين إسرائيليين، على أن تتم مبادلة هذه الأراضي بأراض أخرى مساوية لها في الحجم والأهمية. وحتى الآن لم تصدر إسرائيل وثيقة مكتوبة واحدة تحدد موقفها من الأراضي التي يفترض أن تصبح دولة فلسطينية تقوم إلى جانب إسرائيل.
وتصر إسرائيل على أن أي تقدم جاد لن يتسنى إلا بجلوس الجانبين إلى طاولة المفاوضات وجهاً لوجه. وطبقاً لوجهة النظر هذه، فإن تحالف نتانياهو اليميني قد يتعرض للضغوط لحمله على قبول استمرار التجميد الجزئي للاستيطان، ولكن هذا لن يحدث إلا إذا تأكد الرأي العام الإسرائيلي أن الرئيس محمود عباس ونتانياهو يشاركان علناً في المفاوضات. ولكن تاريخ مثل هذه المفاوضات ينبئنا بقصة مختلفة تمام الاختلاف.
إن كافة الجهود الناجحة في التعامل مع الصراع في الشرق الأوسط لم تحدث أمام الكاميرات ومن خلال المحادثات المباشرة العلنية. والواقع أن الزيارة التي قام بها الرئيس المصري الراحل أنور السادات إلى القدس، ثم اتفاقية كامب ديفيد للسلام التي أعقبت ذلك بين مصر وإسرائيل، لم تتم إلا بعد تفاهمات ناجحة بين الطرفين من وراء الكواليس. ولقد فشلت محادثات مدريد العامة في تحقيق أي تقدم، في حين أسفرت قناة أوسلو الأكثر سرية في التوصل إلى اتفاق بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل. وحتى بعض الأزمات الأكثر تفجراً على الأرض بين إسرائيل وجيرانها في الشمال لم يتم نزع فتيلها إلا من خلال التفاهمات التي كثيراً ما كانت تشتمل على طرف ثالث محايد.
ويُعَد السناتور الأميركي السابق جورج ميتشل طرفاً ثالثاً محايداً نسبياً في الإشراف على المحادثات الحالية. والواقع أن «محادثات التقريب» هذه تسمح لميتشل بضمان بذل كل من الطرفين لجهود جادة. وإذا استعضنا عن محادثات التقريب بمحادثات مباشرة، حيث تغيب الولايات المتحدة عن غرفة المفاوضات، فليس هناك ما يضمن عدم قيام الطرف الأقوى بمحاولة الاستئساد على الطرف الأضعف.
كما تشتمل المحادثات المباشرة على نقاط ضعف معروفة. ذلك أن فشل المحادثات المباشرة كثيراً ما أدى إلى ارتفاع حاد في وتيرة العنف. ولا شك أن الجانبين وبقية العالم لا يريدان مثل هذه النتيجة.
فعندما حاول الرئيس الأميركي السابق بل كلينتون الإعداد لقمة كامب ديفيد الثانية، كان الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات متردداً. فقد شعر بأنّ الموقف لم يكن مناسباً لعقد محادثات مباشرة. وما أثار قلق عرفات كان احتمال الفشل ولعبة تبادل اللوم التي قد تترتب على عجز المفاوضات عن تحقيق الهدف المنشود.
وكان كلينتون، المتورط في مشاكل داخلية، في حاجة ماسة إلى نجاح دولي، لذا فقد أكد لعرفات أن أصابع الاتهام لن توجه إلى الطرف الفلسطيني في حالة فشل المحادثات. ولكن بمجرد مغادرة الطرفين لواشنطن بعد انهيار المحادثات سارع كلينتون إلى الانضمام إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود باراك آنذاك، في إلقاء المسؤولية عن الفشل على عاتق الفلسطينيين.
إنّ أي خبير في شئون الشرق الأوسط يوافق على أنّ السبيل الأفضل لتحقيق تقدم حقيقي جاد في المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، يتلخص في المفاوضات الهادئة من وراء الكواليس. ولا شك أنّ حجر العثرة الأكبر الذي يحول دون الانتهاء إلى أي نتيجة إيجابية، يتمثل في الرأي العام على الجانبين. لذا فكلما كان الرأي العام بعيداً عن المحادثات اليومية، كان ذلك أفضل.
بالطبع، لابد من إشراك جمهور الناس في الأمر من خلال الاستفتاء الوطني في تقييم النتائج بمجرّد بلوغ المحادثات إلى مرحلة مثمرة، والتوصل إلى تسوية شاملة يتقبلها زعيما الجانبين. ولكن إلى أن يأتي هذا اليوم السعيد، أو على الأقل إلى أن يتوصل الجانبان إلى الخطوط العريضة لاتفاق التسوية، فلابد أن ننظر إلى المحادثات المباشرة وفرص التقاط الصور باعتبارها محاولات هدامة. وفي النهاية، لابد أن ندرك أنّ الفلسطينيين والإسرائيليين أصبحوا غير مهتمين بعملية السلام، فهم يريدون السلام فحسب.
المدير العام لشبكة الإعلام المجتمعي في عمان.
خاص بـ»الجزيرة»