الرسائل بين العلماء والفقهاء وثائق علمية وأدبية ثمينة، ومن أغلى الدروس التي يجب أن يتلقاها الأبناء والأحفاد ما خلفه أسلافهم من أهل الخبرة والتجربة والعلم والفقه، وقوة الإيمان بالله تعالى.. ففيها التربية والأصالة والعزّة والمجد.
|
وشيخنا عبدالرحمن بن عثمان الجاسر واحدٌ ممن نحسبهم مدرسة في الدين والخلق والوفاء والصبر وسعة الأفق رحمه الله تعالى.
|
وأجمل ما تكون الرسائل حينما تكون شعراً لا نثراً، فالشعر عميق الأثر في النفوس دقيق الوصف لمكنوناتها سهل التناقل بين الناس، والشعر العربي كان ولا يزال من وثائق التاريخ الهامة جداً.
|
وقد وجدت للشيخ رسائل قيمة جداً كانت تتم بين الشيخ وأحبابه وإخوانه كباراً وصغاراً وفيها تتجلى مكارم الأخلاق التي كان يتمتع بها وسنقف في هذا المقال مع بعضها لنتلمس فيها السمو والوفاء والتواضع وبعد النظر وبذل النصح وآفاقاً أخرى كثيرة وقيماً أصيلة ما أحوجنا إليها وقد تفشّى في الناس حب الذات ونكران الجميل!!
|
أول رسالة أعرض لها هنا هي رسالة الشيخ إلى أخيه أحمد بن مسلم، والشيخ أحمد ابتلي بفقد بصره بعد أن كبرت سنه، وقال في ذلك مقطوعتين شعريتين جميلتين أرسلهما إلى أحبابه، وفيهما تصوير للحياة بعد فقد البصر وصورة من الرضاء بالقدر.. يقول الشيخ أحمد في الأولى:
|
أو هكذا تبقى الحياة مع العمى |
أو هكذا يبقى الوجود معتّما |
أو هكذا طعم الحياة مرارة |
أو هكذا الأعمى يعيش تألما |
يا رب إني لست أشكو جازعاً |
أو أنني في ذا أبوح تبرُّما |
لكنّما وقع العمى قد هالني |
سجناً وقبراً سرمدياً مظلما |
أما القصيدة الثانية فهي لوحة صادقة معبِّرة عن حال من كان متمتعاً بإحدى عينيه ثم يفقدها بعد أن كبرت سنه.. يقول الشيخ أحمد:
|
لعمرك لا يجدي مصاباً بكاؤه |
ولا جازع البلوى يكفُّ بلاؤه |
فما قدّر الرحمن لابد نافذ |
كما شاء فينا.. لا يردُّ قضاؤه |
فقدت أخيراً في الحياة حبيبة |
أنست بها عمري وطاب هناؤه |
فكم نوّرت لي في الحياة محجَّة |
عرفت بها دربي فزال عناؤه |
ويذكِّر المبصرين بفضل نعمة البصر ووجوب شكرها قولاً وعملاً فيقول:
|
ترى دُرَّة في الوجه يحلو جمالها |
وجوهرةً سبحان من ذا عطاؤه |
لعمرك لا يدري المعافى من العمى |
مصيبة من عاناه كيف عناؤه |
ولو عُصبت عيناه يوماً لحاجة |
وبات بلا نور وضاق فضاؤه |
درى بعد ذا ما الحال منه حقيقة |
وما الحال في عيش توارى صفاؤه |
وحينئذ حتماً يقدّر نعمةً |
تجلَّت له نوراً يشع ضياؤه |
فلما قرأ الشيخ الجاسر هذه الأبيات أرسل إلى أخيه أحمد قصيدة جميلة معبرة تفصح عن محبة وفقهٍ وشعور أخوي.. يقول الشيخ فيها:
|
بين العزا والأسى أهدي مواساتي |
وكل ما قدّر المولى لنا آتِ |
إن كان قلبك قد هزّته صدمته |
فإنّ دمعي قد هلّته عبراتي |
فقد الحبيب له في القلب لوعته |
وما لفقد عيون المرء سلوات |
قد أخبر المصطفى في نص سنته |
الصابرون لهم فوزٌ بجنات |
أهدي لكم شيخنا أزكى مُعطَّرةٍ |
والصبر أجدر في كل الملمات |
يا صابرين على البلوى أهنئكم |
والشكر يرفعكم أعلى المقامات |
هذه بعض أبيات كتبها الشيخ في 5-5-1422هـ ويشير فيها إلى الحديث (إذا ابتليت عبدي بفقد عينيه فصبر عوضته عنهما الجنة).
|
وقد دارت بين الشيخين الجاسر وابن مسلم رسائل شعرية أخرى منها رسالة الشيخ الجاسر إلى ابن مسلم بعد تلقيه نسخة من قصائد ابن مسلم.. وفيها يشير إلى مكانته وسابقته في افتتاح أول مدرسة أهلية في الدلم وتدريسه لأوائل طلبة العلم في الدلم فهو أبٌ وأستاذ لعدد كبير من طلبة العلم في البلد يقول الشيخ الجاسر:
|
يا من غرست مبادىء التعليم |
في ديلم لك واجب التكريم |
أهديت من فيض المشاعر نسخة |
من نظم شعرك قاصداً تكريمي |
هذي المشاعر قد قدحت زنادها |
فنظمت شعراً رائع التنظيم |
فلقد سبقت إلى المكارم والوفا |
ولك الوفاء بطارف وقديم |
يابن المسلم ما نسيت نضالكم |
وجهادكم في نشأة التعليم |
وكعادة الشيخ الجاسر يبين من هم الذين ينسون المعروف ويتنكرون له.. فيقول:
|
لا ينكر المعروف إلا جاحدٌ |
أو حاقدٌ أغرته نفسه لئيم |
وإذا تنكّر للحقائق مُغْرضٌ |
فشهادة التاريخ خير خصيم |
فاسلم وقيت من الردى ومن العدا |
ولك الدعاء بجنّة ونعيم |
وكان تاريخ هذه الأبيات 23-10-1416هـ وكان رد ابن مسلم في 27-10-1416هـ ومنه قوله:
|
لأخي الوفاء أقدم الشكرانا |
وتحية جُلّى لكم عرفانا |
منذ الطفولة والدراسة طبعكم |
طبع الكرام سجية عنوانا |
كنتم وما زلتم مثال مروءة |
ورجاحة وعدالة ميزانا |
وبفضل ذا وفقتم بإدارة |
للمعهد العلمي عزَّ مكانا |
(وإذا تنكّر للحقائق مُغرِضٌ) |
سيكون بالتاريخ ذاك مدانا |
وأرسل الشيخ الجاسر رسالة حب وأخوة إلى زميله وصديقه الفريق ناصر بن عبد العزيز العرفج ومما جاء فيها:
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
فلما وصلت الرسالة الشعرية إلى الفريق ناصر كتب جواباً لها قصيدة جاء في مقدمتها: مهداة إلى الأخ الكريم والصديق الحميم الشيخ عبد الرحمن عثمان الجاسر ردًّا على قصيدته الرقيقة - شفاه الله وأدام توفيقه -:
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
|
هذه مشاعر ناصر العرفج لصديقه عبد الرحمن الجاسر بعيداً عن الألقاب، إنهما صديقان عاشا الطفولة في بيتين متجاورين في الدلم ببيوتها الطينية المتواضعة، وحفظ كل منهما الود لصاحبه؛ حيث بدأوا التعليم ثم تفرّقت بهم ظروف الحياة فصار الأول عسكرياً برتبة فريق والثاني شيخ علم وفقه وتربية.
|
وفي رسالة قيّمة تؤكد صدق مشاعر شيخنا الجاسر ووفاءه وتواضعه وعمق محبته لإخوانه وأصدقائه يكتب الجاسر قصيدة إلى فضيلة الشيخ قاضي التمييز عبد العزيز بن سليمان السعيد ومنها قوله:
|
من لي بمكة أدّخره لخلتي |
غير المحب وما عسى ينساني |
خمسون عاماً والصداقة بيننا |
هلا عرفت علاقة الإيمان |
كُنّا نذاكر في المساجد درسنا |
وعلى البساط بمنزل الإخوان |
دامت مودتنا على العهد الذي |
أوصى به المبعوث من عدنان |
يا من تزامن حبه بفتوّتي |
وزميل درس ارتوى بحنان |
أهلاً أبا عمر السعيد ومرحبا |
تسعى إليك تحيتي بأمان |
سارت على درب الحجاز يحفها |
ركب القوافل شدها بعنان |
شيخ بمكة لا عدمت وفاءه |
ذكرى المحب كغائب ولهان |
دوماً تمر الذكريات بخاطري |
وابن السعيد على الوفا يلقاني |
وليس أشد على المرء من مفارقة أحبابه، والشيخ عبد العزيز السعيد زميل دراسة في كلية الشريعة لشيخنا، ثم يشاء الله أن يكون السعيد قاضياً في بلدة (نعجان) في الخرج، والجاسر مديراً للمعهد العلمي في الدلم فتتجدّد العلاقة بين البيتين والعائلتين ولكنها سنة الحياة ينتقل الشيخ السعيد رئيساً لمحكمة الخرج ثم قاضي تمييز في مكة المكرمة.. وتأتي القصيدة التي اخترنا منها الأبيات السابقة:
|
أما خاتمة الرسائل في هذا العرض الموجز فهي رسالة متميِّزة، فنقاد الأدب يقولون إن الشدائد ملهمة الشعراء، وأصدق الشعر ما كان عن تجربة صادقة ومعاناة عميقة.. وليس غير المرض تجربة وليس غيره معاناة.. وقد أكرم الله شيخنا بابتلاء في آخر حياته وهو مرض لازمه فترة من الزمن ومن نتائجه:
|
1 سافر الشيخ للعلاج في بلاد ما كان يظن أنه سيزورها أو يحتاج لها: الولايات المتحدة الأمريكية.
|
2 وجد أن إكمال العلاج سيكون في المملكة العربية السعودية لما تملكه من إمكانات.
|
3 تفجّرت ينابيع الحب والوفاء للشيخ من: أحبابه وطلابه.. ولكن الرسالة كانت من أخ جديد إنه الدكتور جودت طبيبه في المستشفى العسكري بالرياض.. وفي أبيات لاتحتاج إلى شرح أو تعليق يقول الشيخ:
|
طبيبي إليك العذر عما تظنه |
سأكشف أوراقي كنوع من الحب |
طبيبي عداك اللوم ما كنت ساخطا |
عليك ولا أختارُ غيرك في الطب |
ولكنها الآلام كانت تقضّني |
وتعمل في جسمي أشدّ من الضرب |
فدارت بي الأفكار علي أجد لها |
علاجاً يريح النفس من وقعها الصعب |
ذهبت لأمريكا أعالج علّتي |
فخانتني الآمال واشتدّ بي كربي |
فعدت إلى أرضي بكل قناعة |
بأن أساس الطب ليس بأوروبي |
وفي بلدي المحبوب كل فضيلة |
وبالدين والأخلاق ميّزها ربي |
وصفٌ صادق لمعاناة، وصراحة في التعبير عن واقع مؤلم، واعتراف بحقيقة يخفيها بعض الكتاب و(المفتونون)، ويختم هذه القصيدة بحديث إلى طبيبه بألفاظ تنبع من القلب ويمليها الألم فيقول الشيخ:
|
فيا جودة المعروف باسمٍ تطابقت |
شمائله بالجود في الطبّ والحب |
أقدم شكري واعتزازي ودعوتي |
بتحقيق آمالي دعاءً من القلب |
فيا جودة فاقت مجال حدودها |
وغاية آمالي يحققها ربي |
وإني لأرجو الله جلَّ ثناؤه |
يحالفك التوفيق سيراً على الدرب |
وفي قصيدة بعنوان (من شريط الذكريات) صورة أجد من الضرورة أن تسجل هنا، فالشيخ رجل تربية وإصلاح، عمل في الدعوة إلى الله في الدلم وفي مواسم الحج، وهاهو هنا يبين أقوى رابطة بين الناس في القديم والحديث فيقول:
|
صديق فتوتي وزميل درسي |
وحول بيوتنا يحلو لقانا |
ومسجد حيّنا نهفو إليه |
لوقت صلاتنا أو منتدانا |
وبعد صلاتنا في كلّ وقت |
نحيّي جارنا ونرى أخانا |
ويفقد بعضنا بعضاً بشوقٍ |
لأنّ صلاتنا أقوى عرانا |
وفاؤك للصديق (أبا صلاح) |
يعلمنا الوفاء لأصدقانا |
يذكرني الصداقة مُذ نشأنا |
على صدق المحبة في قرانا |
ومدرسة المسلّم تحتوينا |
يُعَلَّمُنا الكتابة أو هجانا |
فهل ذي الذكريات لها مجال |
نعيد شريطها ذاك الزمانا؟! |
فيا عصر البساطة والتراضي |
غرست محبة وعلوت شانا |
وأغلى رسالة أحتفظ بها في مكتبتي الخاصة، وأنا ابن وتلميذ وابن صديق للشيخ عبد الرحمن الجاسر هي أبيات ردَّ بها على رسالتي له وهو في المستشفى العسكري بالرياض يقول فيها:
|
تتابعت الرسائل والقوافي |
سأفسح في الضمير لها مكانا |
وآخر ما قرأت وشدّ ذهني |
محاولة تجاوزت البيانا |
قصيدة شاعر لافُضّ فوه |
مدبجة الثناء لها امتنانا |
فذاك أبو الوليد أخو وفاء |
سيشعل من ثقافته ربانا |
ومعهدنا استحث لها خطاه |
ووشحت القصائد منتدانا |
وآخر ما سمعت من القوافي |
يترجم في الشباب لهم وفانا |
وإن أبا الوليد لهم مثال |
تبوأ شعره حقًّا مكانا |
يفيض تجاوباً ويصوغ شعراً |
وينصر من تظلّم أو توانى |
ويدفع كل شائنةٍ ويبقى |
صفاء القلب يغمره حنانا |
إليك أبا الوليد أصوغ شعري |
وأسبغ بالوفاء لكم دعانا |
|
وكان من أبياتي المتواضعة التي أرسلتها إليه:
|
لكم فضائل لا نحصي لها عدداً |
قد عمت الجمع أقصانا وأدنانا |
قد حاز معهدنا مجداً ومكرمة |
ومن سنا نبلكم قد كان مزدانا |
لقد بذرتم فطاب الغرس وانتشرت |
آثاره تملأ الآفاق إعلانا |
بأنّ نبت الهدى تزكو أرومته |
وتسعد الأرض منه حيثما كانا |
لا تعذلوني فإني قد رنوت إلى |
مجدٍ عظيمٍ سمعنا منه ألحانا |
وفي المعاهد أشبال الهدى نشأوا |
وفي مدينتنا إن شئت برهانا |
وبعد: في يوم الاثنين الواقع في الثامن من شهر شعبان عام 1423هـ ودعت الدلم شيخها وفقيهها وأديبها الشيخ عبد الرحمن الجاسر.. وما كان فقده فقد واحد ولكنه (نفس تساقط أنفسا) كما قال الشاعر: ودّعنا فيه حسًّا مرهفاً، ومشاعر صادقة، ووفاءً نادراً، وقدوة حسنة وأدباً جماً... وكان في شعره مداعبات ومزاح لم يكن في هذا المقال مكان لها ولعله يكون لنا معها وقفة.
|
رحم الله شيخنا وغفر له ورحمه وجمعنا به في دار كرامته ومستقر رحمته.
|
عبد العزيز بن صالح العسكر |
عضو الجمعية العلمية السعودية للغة العربية |
|
|