الأمن، ومحاربة الإرهاب، والتضييق عليه، وعلى تحركاته، غاية لا يمكن أن نتنازل عنها مهما كانت المبررات. أي نظام أو جهاز في هذا العصر له إيجابيات مثلما أنّ له سلبيات. وإذا ما لامست السلبيات الأمن، وتحوّل هذا الجهاز إلى (ثغرة) ينفذ منها الإرهابيون للعبث بأمن البلاد، فلا خيار أمامنا إلاّ المنع؛ وكل من قال غير ذلك فهو يفرط بأمن البلاد. المملكة هي هدف الإرهابيين الأول، وإليها تتجه جحافلهم، وتهوي أفئدتهم، وهم على أتم استعداد لمقايضة تحقيق أمنياتهم والوصول إلى طموحاتهم بكل شيء، حتى بشرف نسائهم.
والبلاك بيري طالما أنه (ثقب) أمني لا يمكن سدّه إلاّ بالمنع، فليُمنع ودعك من مزايدات أصحاب الشعارات. أعرف أنّ هناك من (يدّعي) أنّ محاربة الإرهاب أصبحت ذريعة للتضييق على الناس، ومصادرة حرياتهم. لنفترض أنّ ذلك صحيحاً على سبيل المجاراة، وأنّ مثل هذا التضييق سيمس فعلاً بعض الحريات والخصوصيات التي يوفرها هذا الجهاز لمستخدميه، غير أنّ ما سوف نجنيه في المقابل من هذا التضييق على الحريات (يستاهل) بصراحة أن ندفعه كثمن لاجتثاث الإرهاب ، وخنق أساطينه، وحربهم حتى آخر (قاعدي) ينتمي إلى هذا الكيان الشيطاني القذر، وهذه الثقافة الموبوءة بكل أنواع العداء للإنسان وأمن الإنسان وأخلاقيات الإنسان.
وغنيٌ عن القول إنّ رصد ورقابة اتصالات الإرهابيين ومتابعة تحركاتهم وعملياتهم من خلال اتصالاتهم هي من أهم الوسائل - إذا لم تكن الأهم على الإطلاق - التي جنّبت بلادنا كثيراً من الكوارث الإرهابية؛ وحينما نفرط في هذه الوسيلة فنحن نفرط بأمن بلادنا، وفي الوقت ذاته نمكن طواغيت الإرهاب من العمل والتواصل مع بعضهم البعض بعيداً عن الرقابة التي مكّنت السلطات الأمنية في المملكة من إحباط كثير من عملياتهم الإرهابية كما هو معروف.
والشركة الكندية المصنّعة للبلاك بيري تكيل بمكيالين؛ ففي الوقت الذي تسمح فيه لأمريكا وكندا وكذلك الدول الأوربية بالدخول إلى (شفرة) هذا النظام، ومراقبة مستخدميه، تمنعنا من هذه التكنيك، بحجة حماية الخصوصية الفردية؛ وكأنّ الغرب لهم الحق في حماية أمنهم، حتى بكسر الخصوصيات، بينما نحن لا يحق لنا حماية أمننا؛ وهذا ما لا يمكن أن تقبله أية دولة تحترم نفسها، وسيادتها على أرضها. ثم إذا كان الغرب يُطالبنا بمحاصرة الإرهاب ومراقبة أدواته، وتتبُّع تحركاته، فكيف يحرمنا من (الوسائل) التي تمكِّننا من هذه الرقابة عملياً؟.. الأمن أولاً ولتذهب الحرية ومعها الخصوصية إلى الجحيم.
تعقيب:
الصديق الفاضل الدكتور عبدالرحمن الوابلي عقَّبَ على مقالي (وماذا عن التشدد الشيعي)، مشيراً إلى أنني خلطت بين القضايا (الإيمانية) العقدية وقضايا (التشدد) التي لا علاقة لها بالإيمان، واعتبر أنّ استشهادي بمسألة (الغيبة الصغرى) عند الشيعة دليل على هذا الخلط، لأنها قضية عقدية، فالتشدد في قضايا الفقه وليس العقيدة.
لأخي الفاضل أقول : التشدد لا ينحصر فقط في التطبيقات الفقهية كما توهّمت، بل يمتد في أحايين كثيرة إلى قضايا العقيدة أيضاً التي هي الباعث لهذا التشدد، والأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى. هذا أولاً. أما ثانياً فلو افترضنا - جدلاً - صحة ما تقول، وأنّ مسألة (الغيبة الصغرى) عند الطائفة الإثني عشرية من المسائل الإيمانية التي يجب أن يقبلها الشيعي كما ورثها، وبالتالي فإنّ قبولها من عدمه هو الحد الفاصل بين الكفر والإيمان، فإنّ المفكر الشيعي - و(المتدين) أيضاً - (أحمد الكاتب) الذي نسفَ حقيقة وجود الإمام الغائب من أساسها، واعتبرها بلا سند تاريخي، وأشرت إليه في مقالي آنف الذكر، يكون حسب هذه القاعدة قد انتقل من الإيمان إلى الكفر، وفرط في عقيدته الشيعية. وهذا - أخي الفاضل - ما لم يقله في هذا المفكر الشيعي الكبير حتى متطرفي الشيعة.. والسؤال (المهم) الذي طرحته في مقالي آنف الذكر، وأعيده الآن: لماذا لا يوجد لدينا مثقف (تنويري) شيعي سعودي مثل أحمد الكاتب، أو مثل المفكر الإيراني التنويري (الدكتور عبد الكريم سروش)، الذي أورد بعضاً من مقولاته (التنويرية) الصديق الدكتور حمزة المزيني في جريدة الوطن الخميس الماضي؟.. هذا كل ما هنالك.
إلى اللقاء.