تفاءل عامة الناس وفرحوا واستبشروا كثيرا بالإجراءات التي اتخذت لمواجهة صور الفساد التي تكشفت خفاياها، وتعرت خباياها، بعد كارثة السيول التي اجتاحت جدة، وكان لسان حالهم يردد: «ربما صحّت الأبدان بالعلل»، فقد دلت دروس الحياة وعبرها، في مواقف كثيرة عديدة على أن المآسي والكوارث ليست شرًّا كلها، بل قد يتبدى الخير في ثناياها، والأمل من جراحاتها، وتتبدل الحال إلى وضع أكثر إشراقا وبهجة واستقامة من الحال السابقة.
هذا ما تواتر من سنن الله الكونية، مشاهد معلوم، وهذا ما يتوقع حصوله من ذوي الضمائر الحية، والفطر السليمة الطاهرة، فقد تغلب الإنسان سنة وغفلة، وتسيطر عليه نزوة وشهوة، تضعف إرادته أمام سطوتها، وتخور قواه أمام مغرياتها، لفترة من الزمن قد تطول وقد تقصر بحسب ما يقيض الله للإنسان من أسباب الإيقاظ التي تعيد إليه رشده وصوابه، فيتنبه إلى المخاطر التي أقدم عليها، وتسبب فيها، والمآلات التي سوف ينتهي إليها عاجلا أم آجلا، عندئذ يتخلص من النزوات والشهوات، وتقوى الإرادة ويستيقظ الضمير، ويتغلب الإنسان على كل الأسباب المفضية إلى التمادي في سلم الانحدار وتضييع الحقوق.
للمال شهوة عجبية، وأمام مغرياته وبريق سطوته، تخور قوى وعزائم، وتنهزم الإرادات الضعيفة وتستسلم، وتنقاد بكل بلاهة وسذاجة، لا تفكر بالعواقب والتبعات، المهم عندها كيف تمهد سبل الاستحواذ وتسهلها، وتسوغ الممارسات غير النظامية وتبحث لها عن مخارج، تحت الطاولة فوق الطاولة، لا يهم، المهم الفوز بأكبر قدر ممكن من الغنيمة وتمريرها عبر لي الأنظمة وتطويعها للمصالح الشخصية، والثراء غير المشروع.
في السابق كان المبتلون بهذا الداء، وبهذه البلوى يجرون عمليات السطو على المال العام، على استحياء، بعيدا عن أعين الناس في الخفاء، وفي نطاق محدود ضيق، تحت الطاولة، وبعيدا عن محيط العمل، يملحون عملياتهم ويسوغونها ويضعونها تحت عناوين مقبولة، مثل العمولة، والتسريع في إنهاء الإجراءات وتسهيلها، الإكراميات، وغيرها من عبارات ومفاهيم التحايل والكذب، أما الآن فأضحى الناس يتحدثون في المجالس بكل صراحة عن ممارسات مكشوفة، لأناس لا يخافون ولا يخجلون ولا يستحون، لا خوف من الله يردعهم، ولا خجل من الناس يمنعهم، ولا حياء يثنيهم، يتجاوزون الأنظمة ويتعدون عليها بعيون واسعة، وأيدٍ شرهة، ونهم واسع، فالمال العام في نظرهم غنيمة لا بأس من التجاوز في الحصول عليها، والتعدي للفوز بأكبر قدر منها، وعلى عينك يا تاجر.
لماذا هذا التحول الحاد ؟، لماذا هذا الانحدار السريع في الذمم ؟ ما الذي أصاب قيم الناس وأخلاقهم ؟ كيف يقبل أحدهم أن يأكل ويؤكّل أهله حراما ؟ كيف ينام الليل قرير العين هادئ البال هانئ النفس ؟ كيف يستسيغ هذا كله وهو يعلم أن الله تعالى يحذر من أكل السحت، والسحت مال حرام، كالرشا مثلا، ألم يقرأ ويعي الآيات 42 و62 و63 في سورة المائدة، ويعلم أن كل لحم نبت بالسحت فالنار أولى به.
عجيبة هي حال الناس، كيف يستسيغون أكل السحت وهم يعلمون مقت الله له، والتحذير منه، لقد تجرأ البعض على التمادي في أكل السحت على الرغم من أنهم يقرأون الآيات الذامة لآكلي السحت، والسبب أنهم يمرون على تلك الآيات مرور غير المبالي، لهذا تراهم لا يترددون في الاستحواذ على كل ما أمكن من مال مهما كان سبيله، المهم أن تكبر خانات أرقام الحسابات وتنمو، كيف ؟ لا يهم، من أين ؟ كذلك لا يهم، يفعلون هذا علانية بل كما يقال: على عينك يا تاجر.
ولكي لا يتمادى المستسيغون أكل السحت ويكثرون، لابد من تحريك الروادع وتنشيطها، إما روادع سلطة ضمير يستيقظ من غفلته ورقدته، وإما روادع سلطة سلطان لا تأخذه في الله لومة لائم، تقطع اليد والطريق على كل من تسوِّل له نفسه أخذ المال العام بدون وجه حق.