الجزيرة - واس - إبراهيم الروساء:
أقرّ العالم للمرة الثانية بمكانة المملكة الراسخ ثقافياً وآثارياً، وأكد حضورها الحضاري والتراثي بين دول العالم إثر دخول « حي الطريف « بالدرعية ضمن قائمة مواقع التراث العالمي. فبعد أن ضمّت منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) موقع مدائن صالح لقائمة التراث العالمي قبل نحو عامين، جاء حي الطريف مرة أخرى ليؤكد ويجدد حضور المملكة اللافت في مواقع التراث العالمي، بما يعزز قيمة المملكة من الناحية التاريخية كموطن قديم لحضارات بشرية متنوعة. يمثل اختيار « حي الطريف « بمحافظة الدرعية شمال 20 كلم غرب مدينة الرياض ليكون ضمن قائمة التراث العالمي؛ تقديراً عالمياً بالقيمة التاريخية لهذا الموقع الأثري، وإبرازاً للمكانة الآثارية للمملكة. « الدرعية « المعروفة قديماً ب « العوجاء « واحة غنّاء تتزين بالنخيل وترفل بالنسيج العمراني الفريد الذي يشكل لوحة فنية راقية للعمارة التقليدية في نجد ووعاءً تراثياً وثقافياً تطل من خلاله على العالم.
وترقد الدرعية وادعة بين ضفتي وادٍ خصيب مُليء بأشجار النخيل، وتظهر بحلة بهية على واديٍ يعد الأكبر في الجزيرة العربية - وادي حنيفة - الذي يشهد حالياًَ نهضة بيئية تسير به نحو أن يكون وجهة رئيسية للسياحة الداخلية، بعد أن كان مقراً آمناً وملائماً للاستقرار الحضري منذ أقدم العصور؛ لما تمتلكه الدرعية من مميزات طبيعية وبيئية وجغرافية كالروافد والشعاب والأراضي الخصبة والبناء والتعمير الذي تظهر فيه السمات النجدية بوضوح إلى جانب أنظمة الري وقنوات السقيا. إلى ذلك فسرعان ما احتلت الدرعية الصدارة على الطريق التجاري من شرق الجزيرة إلى غربها، واستمرت الدرعية المدينة الأشهر بوادي حنيفة خلال القرنين الثاني عشر والثالث عشر الهجريين، السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، إضافة إلى تحكمها في طريق الحج إلى مكة المكرمة فامتد سلطانها على عدد من قرى وادي حنيفة وبلغ نفوذها إلى ضرماء في الجهة الغربية من جبل طويق وإلى أبا الكباش شمال الدرعية.
يلف الدرعية سور قديم يتميز بتحصيناته وأبراجه العالية المشرفة على كل الأحياء وتبلغ مساحة الدرعية والمراكز المرتبطة بها (2020 كيلو متر مربع تقريباً) ويخترقها وادي حنيفة وتفريعاته المختلفة مثل الخسيف، والحريقة، وغبيراء، والبليدة، والمغيصيبي، وقصير، وصفار، وقليقل، وقري عمران، والملقا، ودبوس، والعلب، وغصيبة، وناظرة، والسلماني، والرفيعة، وسمحان، وشعيب كتلة، والقرين، والطريف. وتضم الدرعية عدداً من الأحياء مثل حي الغصيبة الرئيسي، وأحياء الظهيرة والطرفية والبجيري والعودة والبليدة والسريحة، وتتميز هذه الأحياء العامرة قديماً بأنها تشترك في كثير من عناصرها العمرانية التي تمثل مفهوم العمران الإسلامي الذي يميز بالخصوصية واحترام الجار، إلى جانب المظهر العام للبيوت الذي يوحي بالحياة البسيطة والبعد عن البذخ، ويتوسط هذه الأحياء المسجد الجامع الذي يعد مكان العبادة والاجتماع والشورى.
كما تضم هذه الأحياء عدداً من القصور مثل قصر سلوى - قصر الحكم - الذي بناه الإمام محمد بن سعود في القرن 12 وكان مسكنا للأمير ومنه تدار شؤون الدولة، وقد تعاقب عليه عدد من الأئمة الذين أدخلوا تعديلات عليه ويعد اليوم نموذجاً للإعمار النجدي والطراز الطيني والحجري. في العصر الإسلامي تبوأت الدرعية صدارة طريق الحجاج إلى مكة المكرمة، ولهذا امتد سلطانها إلى عدد من قرى وادي حنيفة، وقد ظهرت الدعوة الإصلاحية في ربوعها بعد أن احتضن حاكمها الإمام محمد بن سعود مؤسس الدولة السعودية الأولى (1157 - 1232هـ/ 1788 - 1818م) دعوة الإمام المجدد الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حيث بدأت صفحة جديدة في تاريخ الدرعية وانطلقت منها رسالة الإصلاح، وتحقق من خلالها الكثير من النجاحات، وعلا شأن الدرعية السياسي والعسكري، ونشطت في ربوعها الحركة العلمية، وغدت منارة للعلم ومقصدا للعلماء، وتقاطر التجار على أسواقها، ونشطت فيها الحركة التجارية والاقتصادية.
ودخل حي الطريف دائرة الاهتمام العالمي بعد إعلان صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز رئيس الهيئة العامة للسياحة والآثار موافقة لجنة التراث العالمي على تسجيل حي الطريفة في الدرعية التاريخية في قائمة التراث العالمي التابعة لليونسكو، وذلك خلال اجتماع لجنة التراث العالمي باليونسكو في دورته الرابعة والثلاثين المنعقد حالياً في مدينة برازيليا بالبرازيل في السابع عشر من شعبان الجاري الموافق 29 يوليو 2010م.
يعد حي الطريف في الدرعية التاريخية الموقع السعودي الثاني الذي يتم تسجيله في قائمة التراث العالمي بعد اعتماد تسجيل موقع الحجر (مدائن صالح) للقائمة بتاريخ (الاثنين 4-7-1429هـ الموافق 7-7-2008م). وهما موقعان ضمن المواقع الثلاثة التي صدرت الموافقة السامية الكريمة عام 1427 هـ على أن تتولى الهيئة العامة للسياحة والآثار استكمال إجراءات تسجيلها في قائمة التراث العمراني وهي: مدائن صالح والذي تم تسجيله في عام 2008م، وحي الطريف بالدرعية، وجدة التاريخية الذي تم تقديم ملف ترشيحها لليونسكو وفي انتظار النظر فيه في الدورة القادمة للجنة التراث العالمي.
حالياً تجري ثلاث مشاريع تطوير في كل من حي الطريف الأثري، وحي البجيري، والطرق ومواقف السيارات وشبكات المرافق العامة، وتم استكمال نزع الملكيات الخاصة التي تقع ضمن المشروع، لاستخدامها في توسعة الطرق وتنفيذ مواقف السيارات، والساحات المفتوحة والمرافق الخدمية، إلى جانب مشروع تطوير حي الطريف الأثري الذي يشمل متحف الدرعية في قصر سلوى، وجامع الإمام محمد بن سعود، ومركز استقبال الزوار، وعرض الصوت والضوء وعروض الوسائط المتعددة، وجسر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، ومتحف التجارة والمال.
ومن المشاريع التي جرى طرحها في منافسة للتنفيذ، المتحف الحربي، ومتحف الخيل العربية، وسوق الطريف، ومركز توثيق تاريخ الدرعية، ومركز إدارة الطريف، ومتحف الحياة الاجتماعية الذي سيقام في قصر عمر بن سعود بمساحة 1.100 متر مربع، ويعرض جوانب الحياة اليومية والعادات والتقاليد والأدوات المستخدمة في فترة ازدهار الدولة السعودية الأولى، إضافة إلى قاعة لعرض طرق البناء التقليدية وأساليب البناء بالطين على مساحة 1000 متر مربع، و15 بيتا تراثيا للإيجار اليومي يمكن تقسيمها إلى أكثر من 30 دارا بمساحة 2.570 متر مربع، وسيجري ترميمها وتأهيلها لتوفر تجربة فريدة للزوار بالعيش في البيئة التقليدية التراثية ضمن حي الطريف.
سور طريف يعد هو الآخر لوحة معمارية متفردة أخذ أهميته من أهمية الحي الذي يحيط به ويضم عدداً من القصور التي شيدت في عهد لدولة السعودية الأولى ويعلو السور عدد من الأبراج الضخمة للمراقبة وهو ما زال قائم حتى الآن، وبقربه يقف العديد من الأماكن الأثرية كقرى عمران وسمحان وبرج سمحة وبرج شديد اللوح وسور قليقل وحصن الرفيعة، وأبراج المغيصبي وبرج الفتيقة، وبرج فيصل وأبراج القميرية، وقصر الأمير سعد بن سعود وبرج الحسانية، ومسجد الظهيرة وغيره.
يتمتع حي الطريف بخصوصية معمارية قادته أن يمثل المملكة في محفل التراث العالمي، حيث صاحب ازدهار الدولة السعودية الأولى تطور نمط مميز من الفنون المعمارية فتقدمت مهارات استخدام الحجر والطين حتى وصل إلى أعلى المستويات كما يقول المؤرخ الإنجليزي « وليام فيسي « ويذكر أن الطراز المعماري وأساليب البناء الفنية في الدرعية القديمة تندر في منطقة نجد.
كما ظهرت الزخارف العمرانية والنقوش في المسكن التقليدي لتعطي دلالة ومؤشر لانتقال المسكن من المرحلة تأمين المأوى كحاجة ضرورية إلى مرحلة الرفاهية والاستمتاع بالأشكال الفنية والتشكيلية.
ويتفق العديد من المؤرخين على أهمية الأسوار التاريخية بصفتها أهم الملامح العمرانية ودرعاً منيعاً بمثابة خطوط الدفاع الأولى عن المدينة، وأهمية استكشافية لمراقبة تحركات العدو في أوقات الحرب، والمساعدة على رصد وصول القوافل التجارية في أوقات السلم، بالإضافة إلى إطلاق الإنذار المبكر لمواجهة أسراب الجراد الصحراوية، وتمثل البوابات الموجود في الأسوار المداخل والمخارج الوحيدة في البلدة حيث يتم التحكم بنظام بها لتوفير الأمان للسكان.
ثمة خاصية يشترك فيها حي الطريف مع سائر فن العمارة التقليدية في الدرعية القديمة، والطراز المعماري في نجد وهو التقسيم الثلاثي، حيث يراعي « استاذ « البناء قديماً أن يتوفر في البيت التقليدي بصفة عامة ثلاثة خصائص أو أقسام هي قسم الرجال وآخر للعائلة وثالث للخدمات.
قسم الرجال كما يصفه المهندسون المعماريون قناة الربط الرئيسية بين الخارج والمنزل، ويتوسطه باب خشبي يصنع من الأثل وجذوع النخل، ويزخرف بالنقوش والألوان والحلي المعدنية وفيه مجلس مخصص لاستقبال الضيوف يسمى الديوانية أو القهوة لدى أهل نجد، يحتوي على الكمار المحفور في الحائط وتعرض فيه دلال القهوة وأباريق الشاي، والوجار أو المنقد المخصص لإيقاد النار لإعداد القهوة والشاي ويعلو الديوانية الكشاف أو السماوة وهي فتحة في السقف مهمتها سحب الدخان الناجم من احتراق الخطب، أما الليوان فهي ساحة أمامها قناة مفتوحة، بجوار المجلس، لاستيعاب أي أعداد إضافية من الضيوف، كما يتم استقبال الضيوف فيه خلال الصيف، نظرا لتهويته وإضاءته الطبيعية.
القسم الثاني هو قسم العائلة وهو من أكثر أقسام المنزل استخداماً ويضم الفناء والأروقة والقبة وغرف النوم الأرضية، ويمثل الفناء الساحة المكشوفة في المنزل التي تطل على كافة التفرعات ويحقق هذا الفناء أهداف مناخية وبيئية واجتماعية كبيرة، حيث يمثل طوال الليل وجزء من النهار خزان للهواء البارد وسط محيط من الهواء الجاف نظراً لتصمميه الفريد كما يحقق أهداف بيئية غير توفير بيئة صحية نظيفة لسماحه بدخول أشعة الشمس إلى عمق المسكن، إضافة إلى حجبه الضوضاء كما يحقق الخصوصية لأفراد الأسرة، ويتيح زيادة التواصل الاجتماعي بينهم عبر اللقاءات اليومية وفي المناسبات العامة كالأعياد والزواج، أما الأروقة فهي الممرات التي تحيط بالفناء من جوانبه الأربعة فهي حلقة الوصل بين الفناء والغرف، وعادة ما توجد غرفة كبيرة لها سقف مرتفع وتسمى المصباح أو القبة وتعد بمثابة صالة جلوس للعائلة وتوجد في القسم العائلي غرف نوم بمساحات مختلفة.
أما القسم الثالث فمخصص للخدمات ويشمل على المطبخ وغرف التخزين وأحيانا في بعض المنازل على آبار وحظائر للحيوانات وصهاريج تماثل الحمامات وقد تكون هذه المرافق مشتركة بين أكثر من منزل.
يقول المؤرخ الفرنسي كورانسيز « إن مدينة الدرعية القديمة تم بناؤها من حجر، وعرضها نصف فرسخ وطولها ثلاثة أضعاف عرضها». ويصل طول المباني إلى نحو بضعة أقدام وتغلف الجدران بطبقات من الجبس ولبنات الطين وتسوى بلياسة طينية تخفي الحجارة عن الأنظار، وكثيراً ما كان الحجر يستخدم في الدرعية، لإنشاء جدران كاملة كما هو الحال في النصف الغربي من حي الطريف ولا يزال من الممكن رؤية الأمثلة الواضحة على هذا الاستعمال في أكثر من مكان، ويعد طين الصلصال المكون الأساس في طوب اللبن الذي يستخرج من الأرض حيث أماكن المياه الجوفية. يتميز طين الصلصال بخاصية الالتصاق، وهي خاصية تجعله منه مادة يصعب التعامل معها بتركيبتها الأولية، كما أنها قد تتفتت وتتصدع، ما لم تعالج بمواد أخرى لذا يخلط الطين بالتراب الناعم المترسب على ضفتي وادي حنيفة، والتبن والقش، وتستخدم مادة الجبس البيضاء المصنوعة من الحجر الجيري بعد حرقة وطحنه في تبييض وتزيين الجدران من الداخل والخارج، مما يكسبها مزيدا من الجمال والقوة والقدرة على تحمل الأمطار وتعد أخشاب الأثل والنخيل من العناصر الأساسية في البناء نظراً لصلابتها ومقاومتها للتشقق، ويستخدم الخشب في الأعمال الهيكلية لصنع السقوف والعتبات العلوية كالأبواب والنوافذ مثلما كان متبعاً في بقية أرجاء نجد، وكانت ألواح الخشب تستخدم في صنع الأبواب وتحضى السقوف بعناية كبيرة لخطورتها؛ لذا كان يتم تسقيف المنزل بعوارض خشبية متينة من جذوع الأثل ترص بشكل أفقي على حواف الجدران ويترك بينها مسافات تتفاوت من عشرة سم إلى عشرين سم وفوق الأخشاب توضع سعف النخيل فتمنع بدورها تساقط الطين الذي يوضع فوقها طبقة من تتراوح سماكتها من 15 سم إلى 20 سم، ويدك بالأقدام ليترك حتى يجف، وبعد ذلك تتم تغطيته بطبقة طينية وأخرى مخمرة بالتبن لإعطاء السطح الخارجي خاصية عزل الماء.