د. حسن أمين الشقطي
البعض يعتقد أن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الدول العربية هو صناعة محلية من صنع أطراف متعددة، كالتجار أو نهم المستهلكين أو حتى نتيجة سياسات حكومية ربما تكون خاطئة.. إلا إنه رغم عدم اعتراضنا على وجود بعض الأدوار لهذه العوامل، فإن الدور الرئيسي في أي صعود في أسعار المواد الغذائية يعود لارتفاع الأسعار العالمية.. فالدول العربية جميعا تعتبر متلقية (مستوردة) للمواد الغذائية الرئيسية، ولا تتجاوز مساهمة إنتاجها المحلي في العديد من هذه المواد نسب قد لا تتجاوز 25% في غالبية الأحيان، بل أنه يوجد منتجات غذائية مختلفة لا تنتجها العديد من الدول العربية على الإطلاق، مثل الحبوب والبقوليات؛ إما لعدم مناسبة أجوائها أو عدم توافر المياه الكافية أو غيرها من العناصر المطلوبة لإنتاج هذه المواد الغذائية، فعلى سبيل المثال، فإن نسبة الاكتفاء الذاتي بدول مجلس التعاون في مجموعة الحبوب لا تزيد عن 4%، غالبيتها في المملكة العربية السعودية.
فسواء شئنا أم لم نشأ، فإن الأسعار العالمية تعتبر العنصر المستقل الرئيسي الذي يقود أسعار المواد الغذائية في الأسواق العربية المحلية وعلى رأسها السوق السعودية.. وقد شهدت هذه الأسعار العالمية للمواد الغذائية خلال السنوات الثلاثة الأخيرة تقلبات عنيفة لم تشهدها من قبل، حتى أن أسعار بعض السلع تضاعفت بمقدار ضعفين إلى ثلاثة أضعاف خلال فترات صغيرة.
وعندما نتحدث عن المواد الغذائية فإننا لا نتحدث عن منتج يمكن الاستغناء عنه، كما لا نتحدث عن منتج عادي يمكن إحلاله ببدائل أخرى، بل هي منتجات ضرورية في معظم الأحيان غير قابلة للاستعاضة الجزئية أو الكلية.. لذلك فلا مفر من التعامل مع واقع هذه المواد، وبالتالي لا منفذ لها سوى بالتحرك السعري لأعلى استجابة لأي ضغوطات نتيجة مزيد من الطلب أو نقص في العرض.
والمتابع للأزمة المالية العالمية الأخيرة يلحظ أن الرقم القياسي العالمي لأسعار المواد الغذائية قد ارتفع من 100.1 (كمتوسط للفترة 2000-2002م) إلى 125.3 (كمتوسط للفترة 2003-2006م)، ثم حقق قفزة كبيرة ليصل إلى 207.1 (كمتوسط للفترة 2007- سبتمبر 2008م)، ثم بدأ يتراجع بتأثير الأزمة المالية العالمية ليسجل 180.89 (كمتوسط للفترة أكتوبر2008-ديسمبر 2008م).. وأخيرا أخذ الرقم القياسي للمواد الغذائية اتجاها متذبذبا يحوم حول 190 خلال الفترة (بداية 2009-حتى الآن تقريبا) (يراجع في هذا تقارير منشورة مركز دعم القرار بمجلس الوزراء المصري).
وحتى الآن لا توجد تفسيرات منطقية لأسباب استمرار المستويات المرتفعة للأسعار العالمية للمنتجات الغذائية الرئيسية، فيفترض أن الأزمة المالية قد تلاشت نسبيا، كما أن العديد من مسببات الارتفاع الجنوني الحادث في منتصف 2008 قد انتهت ولم تعد موجودة.. أما الأمر الأكثر غرابة أن الأسعار العالمية للعديد من هذه المواد الغذائية في طريقها الآن لصعود جديد وربما يكون أكثر عنفا لبعض هذه المواد، حيث سجل الرقم القياسي للمواد الغذائية حتى يوليو 2010 حوالي 166، في مقابل 152 في عام 2009م، أي أن هذا العام يسجل ثاني أسوأ عام للارتفاع في أسعار المواد الغذائية، بشكل يجعل هذا العام امتدادا للارتفاع العنيف في عام 2008م.. فما الذي حدث ؟ وإلى أين تسير قاطرة أسعار المواد الغذائية والتي تعد الدول العربية المتلقية الرئيسية لها في السوق العالمي ؟ وهل لقدوم شهر رمضان دور في ارتفاع أسعار هذه المواد عالميا ؟
إن البعض يتحدث عن دور مرونة العرض بالنسبة للأسعار كدافع لارتفاع أسعار المواد الغذائية، والبعض الآخر يتحدث عن دور السياسات الحكومية، في حين أن فريق ثالث يتحدث عن معدلات النمو الاقتصادي، وهي عوامل تؤثر فعليا على العرض والطلب من المواد الغذائية، إلا إنه توجد عناصر أخرى أصبحت أكثر أهمية، هي التغيرات في أسعار النفط والتغيرات في سعر صرف الدولار، وأيضا السياسات الحكومية التي يتبناها المنتجون الرئيسيون.
ومؤخرا ظهرت التغيرات في أسعار النفط كعنصر مهم للغاية، ويلعب دورا سلبيا في التأثير على ارتفاع أسعار المواد الغذائية.. حيث أن ارتفاع الطلب على المحاصيل الزراعية المستخدمة كوقود حيوي كبديل للنفط إلى ارتفاع أسعار هذه المحاصيل بقوة وأيضا ارتفاع أسعار المحاصيل الأخرى نتيجة انخفاض حجم المساحات المتاحة لهذه المحاصيل الأخرى.. أي أن كل ارتفاع في أسعار النفط يقود بشكل غير مباشر إلى ارتفاع في أسعار المحاصيل الغذائية.
أيضا تلعب السياسات الحكومية الزراعية في الدول المنتجة الرئيسية للمواد الغذائية دورها الهام في التأثير على مستويات الأسعار، ولا يزال عالق بالأذهان ما كانت تفعله بعض الدول الغربية المنتجة للقمح برميه في البحار للمحافظة ومنع نزول أسعاره.
ومن القضايا المثيرة للجدل في عالمنا العربي، هو النقاش الكبير حول أسباب المبالغة في ارتفاع أسعار المواد الغذائية في الدول العربية بشكل يفوق الارتفاعات الحادثة في الأسعار العالمية، بل البعض لاحظ أن كثيراً من المواد الغذائية لم تنخفض أسعارها رغم انخفاض أسعارها العالمية.. وهذا الأمر يرتبط بعناصر أخرى إضافية بجانب العناصر المذكورة أعلاه والتي تؤثر في الأسعار العالمية.
فكثير من الدول العربية إما تبنت أو لا تزال تتبنى سياسات زراعية خاطئة، بعضها أهدرت المياه في زراعات غير مناسبة لها بيئيا، والبعض الآخر أهدر المساحات المستصلحة في محاصيل غير مجدية، في حين أن البعض الآخر قد أهدر الأراضي الصالحة للزراعة في أنشطة أخرى، مثل التعمير والإسكان وغيرها. أي أن عنصر العرض بات يلعب دورا سلبيا في غالبية الدول العربية، لدرجة أن العديد من الدول تحولت من دول زراعية من الدرجة الأولى في الخمسينات إلى دول لا هي زراعية ولا صناعية.. فعوامل عدم توافر الأراضي وتدني الإنتاجية وتراجع الاستثمارات الحكومية أصبحت تقيد المعروض من المواد الغذائية في هذه الدول، بشكل أصبح يضيف عبئا على أسعار هذه المواد الغذائية.. والبعض يتحدث عن تراجع مستمر في نسب الاكتفاء الذاتي من المنتجات الغذائية الرئيسية، بشكل يضيف أعباء جديدة تمثل ضاغطا إضافيا على الأسعار المحلية لهذه المنتجات بجانب الضغط نتيجة ارتفاع الأسعار العالمية منها أساسا.
أما على مستوى المواد الغذائية، فإن مجموعة السكر تكاد تكون الأعنف في تقلباتها والتي تميل إلى الصعود القوي خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، تليها مجموعة الحبوب التي سجلت ثاني أعلى ارتفاع عنيف خلال عام 2008، يأتي بعدها مجموعة الزيوت، ثم الألبان.. وفي الاعتقاد أن بقية عام 2010 قد تشهد مزيد من الارتفاعات لمجموعتي الحبوب والسكر.
وإذا كانت توقعات منظمة الفاو تشير إلى احتمال حدوث تراجع في أسعار المواد الغذائية خلال العامين المقبلين، فإن ذلك لا يعني كثيرا أن أسعارها ستنخفض في العالم العربي، وذلك بتأثير قوي العرض المحلي فيها.. أما على المدى البعيد، فإن منظمة الفاو تتوقع ارتفاعا في الطلب على الغذاء بنسبة تصل إلى 1.5% سنويا، أي بما يعادل 7.5% بعد خمسة سنوات.. وعليه، فإن هذه الزيادة يحتمل أن تتسبب في ارتفاعات قوية في الأسعار العالمية للمواد الغذائية.. بشكل يمكننا التوقع معه بأنه لا مكان للغذاء الرخيص مستقبلا.
(*) محلل اقتصادي
Hassan14369@hotmail.com