بين المهم والأهم، نحتاج في ترتيبنا للأولويات تحديد نقطة الانطلاق وتدعيمها بأكبر قدر ممكن من المعلومات المتوافرة وغير المتوافرة لكي نتحقق بأكبر قدر ممكن من القناعة والوضوح في الرؤية، للفصل والتفضيل بين المهم والأهم،
ولو أخذنا على سبيل المثال قضيتين مهمتين جدا للحياة الآمنة للفرد هما الوظيفة والسكن، فإننا سنجد أن الوظيفة أهم من السكن، إذ إن الوظيفة يمكن أن توفر السكن لكن السكن لن يوفر الوظيفة، ولو أننا جمعنا ما تم تخصيصه لمعالجة الإسكان من منح أراض وتقديم قروض ثم استحدثنا بهذه المخصصات فرصا وظيفية، لكانت الجدوى الاقتصادية أكبر فائدة على المواطن والوطن مما يسهل توفير السكن بشكل أفضل وأيسر.
وقضية المهم والأهم عملية ليست بالسهلة وتحكمها عدة عوامل طبيعية وعلمية وعملية وقدرات وإمكانات وإرادة، وتحتاج إلى موازنات دقيقة للغاية وإبداع خلاق قد يجعل الهروب منها إلى الاجتهادات والاقتراحات الوقتية أو الظرفية أكثر إغراء وجاذبيه، لولا أن الاستمرار في ذلك قد يزيد الأمور تعقيدا وتشابكا حتى نصل إلى قاعدة» ليس بالإمكان أكثر مما كان» وهذا ليس صحيحا بحكم أننا، بفضل الله نملك اليوم كل الإمكانات اللازمة لصناعة الموازين الدقيقة لكافة المسارات التنموية وتقديم ما هو أهم على ما هو مهم، ومع هذا، فلن نستشعر قيمة هذه الفلسفة التفضيلية ما لم نرسم الأهداف المرجوة لكي نخط مسار الوصول إليها في التاريخ الذي نحدده.
والأمر الملفت للانتباه حقا أن كثيرا من الحلول التي تطرح لمعالجة بعض القضايا التي تظهر أو تتولد من رحم دورات البناء والتطور في دول الخليج، تتم بمعالجات إن صح القول» فدائية» مغلفة بالطبائع الأخلاقية والأدبية للوجدان القومي والثقافي، في حين أن عملية البناء والتنمية والتطوير تحتاج إلى القواعد العلمية والدراسات الحسابية الدقيقة وهندسة الرؤية والتخطيط التي تتعامل مع القضايا بشكل تقني أصم خال من العواطف والوجدانية، والأمثلة كثيرة لحالات مشابهة لتقديم السكن على الوظيفة، مثل الاستعاضة عن تحسين الأداء وتطويره في جهة خدمية ما، إلى إنشاء جهاز آخر مستقل يقوم بأداء ما عجزت عنه الجهة الخدمية ذاتها، أو بناء التمديدات البنيوية باجتهادات وتفرد عوضا عن بناء دهاليز خدمية تحت الأرض تتسع لمتطلبات الحاضر واحتمالات المستقبل أو صرف مخصصات الاستحقاقات الدائمة على الحلول المؤقتة المستأجرة أو حتى في توسعة الطرق والميادين بديلا من توفير وسائل نقل عامة، وإلى آخره من الأمثلة والشواهد.
هذه الحلول التعويضية وإن رئي أنها أفضل الحلول المتاحة لمعالجة قصور أو توفير بدائل أفضل، ربما نجحت فعلا في تحقيق ما هو مطلوب ومتوخى من وراء إنجازها أو على الأقل ساهمت وبشكل مشهود في تحجيم المشاكل التي استدعت إنشاءها، والقضية ليست هنا، بل في ثقافة وفلسفة التنمية والبناء التي ننتهجها في بعض دول الخليج العربي والتي لم تتحول حتى الآن إلى خرائط علمية يمكن تتبع مساراتها بالخطوط والأرقام، التي تخضع في النهاية إلى شرط تقديم صورة واضحة ودقيقة لنقاط البحث الدوري للتقييم والمتابعة وتمنح الثقة والقوة في الحكم على مدى النجاح المتحقق، والذي من خلاله يمكن معالجة ما هو قائم من مشاكل قد تعطل أو تؤخر تقدم المسار، وكذلك استقراء ما هو محتمل ومتوقع من مشاكل أو مفارز طبيعية لدورة التطور والتحول من مرحلة إلى أخرى بمعالجات علمية تعتمد المعلومة والأرقام لتلافيها قبل حدوثها، وجعل هذه المعالجة خادمة لتمتين وتقوية البناء التطويري التنموي، والذي يحقق لنا في نهاية الأمر رؤية مسار تنموي مسترسل إلى الأمام بشكل يبعث الأمن والاطمئنان في النفوس لغد مرسوم ومعلوم لا يحتاج إلى اختراعات للحلول أو الاجتهادات الوقتية والظرفية التي ربما عالجت قضية بخلق قضايا أخَر.
Hassan-alyemni@hotmail.com