المتأمل في مسيرة التاريخ، وفي مجريات أحداث الزمن الحاضر، يتضح له أن وعود قادة الغرب منها ما وُفي بها ومنها ما لم يُوفَ بها.
|
ولا يعتمد الوفاء بتلك الوعود أو عدم الوفاء بها على من قاموا بالوعد فحسب، بل يعتمد على مكانة من أُعْطِي ذلك الوعد أيضاً. ومن الأدلة على ذلك ما أعطاه قادة بريطانيون وأمريكيون لزعماء عرب وصهاينة، وذلك بالنسبة إلى قضية فلسطين بالذات، التي هي محور قضايا أمتنا.
|
لقد وعد البريطانيون، ممثلين في وزير خارجيتهم بلفور، بأن يسعوا إلى قيام وطن قومي لليهود في فلسطين، فبرُّوا بوعدهم، وكان ما كان من اتخاذ خطوات متتالية مدروسة بعناية شيطانية ماكرة حتى تحقق للصهاينة إقامة كيانهم العنصري على أرض فلسطين عام 1948م. وكان في طليعة تلك الخطوات تعيين أول مندوب سام لبريطانيا على فلسطين، التي وقعت تحت انتدابها، صهيونياً مخلصاً لصهيونيته. ومن تلك الخطوات فتحهم الباب أمام الصهاينة كي يتدفقوا على ذلك البلد المبتلى بانتدابهم، وتهيئة المجال لهم كي يتملكوا الأراضي ويتدربوا على الأسلحة التي سهل عليهم الحصول عليها حتى أصبحت لهم عصابات اختلفت أشكال جرائمها بشاعة وعنفاً وإن اتفقت أهدافها، وهي ممارسة الإرهاب ضد الفلسطينيين سكان البلاد الأصليين؛ حتى يضطروا إلى مغادرتها، أو يبادوا فيها.
|
وفي الوقت الذي أعطى فيه قادة بريطانيا وعدهم للصهاينة فبرُّوا به واجتهدوا كي يجني أولئك الصهاينة ثماره، كانوا قد أعطوا وعداً للعرب ممثلين في الملك حسين بن علي رحمه الله أن يعملوا على أن يكون ملكاً للعرب على كل الأراضي التي ينتزعونها من الدولة العثمانية، لكنهم لم يفوا بما وعدوا الحسين به، بل تقاسموا ما انتزعوه من العثمانيين مع فرنسا. وكان ما كان لذلك الزعيم الذي غدر به؛ حيث كانت نهايته منفياً إلى جزيرة قبرص حتى أتاه اليقين هناك.
|
ذلك مثل من أمثلة وعود قادة بريطانيا لزعماء صهاينة وزعماء عرب. وإذا كان قادة بريطانيا هم الذين أعدوا التربة الخصبة كي تنبت بذرة الصهيونية وتورق في أرض فلسطين فماذا عن قادة أمريكا؟
|
ورد في بيان وزارة الخارجية الأمريكية، خلال رئاسة الرئيس روزفلت تحديد موقف حكومته بما يأتي:
|
«كل رئيس (أمريكي)، ابتداء من الرئيس ولسون، قد عبر عن اهتمامه الخاص في مناسبة، أو مناسبات عدة، بفكرة وطن قومي (لليهود).. وإنه في ضوء هذا الاهتمام قد راقبت الحكومة الأمريكية وشعبها بأشد العطف تدرج الوطن القومي (اليهودي) في فلسطين، وهو مشروع لعب فيه الذهب ورأس المال الأمريكي دوراً رئيسياً».
|
ومن الواضح أن ذلك الكلام ليس وعداً، لكنه كان يعبّر أصدق تعبير عن موقف أمريكي متفان في مناصرة الصهاينة. أما ما يمكن أن يؤخذ وكأنه وعد من الرئيس روزفلت للملك عبدالعزيز فكان قوله في رسالة كتبها إليه عام 1362هـ 1943م: «يسرني أن تتاح لي هذه الفرصة لأكرر تأكيدي أن رأي حكومة الولايات المتحدة أنه، في كل حال، يجب ألا يتخذ أي قرار يغير وضعية فلسطين الأساسية من دون التشاور الكامل مع كل العرب واليهود». وما حدث على أرض الواقع هو أن التشاور الأمريكي مع اليهود الصهاينة قد تمَّ لكن لم يؤبه بأي تشاور مع العرب، فلسطينيين وغير فلسطينيين.
|
وفي عام 1364هـ 1945م قال الملك عبدالعزيز: «على أمريكا وبريطانيا أن تختارا بين أرض عربية يسودها السلام والهدوء وأرض يهودية غارقة بالدم». وما سارت عليه الأمور يدل دلالة واضحة جداً على أن الدولتين اختارتا أرضاً يهودية (في فلسطين) غارقة بالدم.. لكنه كان دم الفلسطينيين، الذي ظل يغرق تلك الأرض من تاريخ مقولة ذلك العاهل المخلص إلى الآن.
|
وفي محادثات تمَّت بين الملك عبدالعزيز والرئيس روزفلت وعد الأخير الملك بقوله: «لن أسمح بأية بادرة عدائية من جانب الولايات المتحدة ضد الشعوب العربية. وإن عهد الاستعمار قد ولَّى وكذلك عصر الإمبراطوريات». وإني لأكاد أعتقد أن كثيرين يعلمون بادرات عدائية عديدة قامت بها أمريكا ضد الشعوب العربية، ولاسيما ضد الشعب الفلسطيني، وأن الاستعمار القديم قد ولَّى شكلياً، لكنه ما زال ساري المفعول على أيدي قادة أمريكا عملياً في بعض الأقطار الإسلامية مصوِّراً إمبراطورية متغطرسة.
|
ذلك شيء مما جرى من وعود قبل قيام الكيان الصهيوني العنصري على أرض فلسطين. وما تلا ذلك من وعود رؤساء أمريكيين قبل الإدارة الأمريكية الحالية للصهاينة وُفي بها، ووعود للعرب بعامة والفلسطينيين بخاصة لم يُوفَ بها يعرفها المتابعون للقضية الفلسطينية، لكن ماذا عن الإدارة الأمريكية الحالية؟
|
الذين كُتب عليهم أن يؤخذوا إلى معتقل غوانتانامو هم مسلمون بينهم عرب، ومنهم غير عرب. ولقد وعد الرئيس أوباما قبل أن يصبح رئيساً بأنه سيغلق ذلك المعتقل فور وصوله إلى الرئاسة، لكنه لم يفِ بوعده حتى الآن. ووعد بأن إدارته ستتخذ موقفاً حازماً كي يوقف الصهاينة بناء المستوطنات (المستعمرات) في الأراضي الفلسطينية التي احتلوها عام 1967م بما فيها القدس، سواء كان البناء إنشاء لمستوطنات جديدة أو توسيعاً لمستوطنات سبق أن بُنيت، لكن البناء ظل قائماً على قدم وساق. الموقف الأمريكي المتصلب المشاهد الآن هو موقف الضغط على من ينصاعون لتوجيهات أمريكا؛ خوفاً من تسلطها أو طمعاً في فتات معونتها؛ كي يوالوا انصياعهم لتلك التوجيهات. أما قادة الصهاينة فلا يرجع واحد منهم، بعد مقابلته مسؤولين أمريكيين، إلا وقد أُعطِي إشارة خضراء للقادة الصهاينة كي يواصلوا تهويدهم للأراضي الفلسطينية في القدس وسواها، وإزالة كل ما يدل على أن المكان كان عربياً إسلامياً. هل الموقف الأمريكي الحالي غريب؟ كل الدلائل تدلُّ على أنه موقف يمثل حلقة في سلسلة من مواقف قادة أمريكيين تعاقبوا على زعامة أمريكا. المشكلة ليست في موقف قادة أمريكا أو بريطانيا؛ فعداؤهم لأمتنا، عرباً ومسلمين، أمر معروف، لكن المشكلة في مواقف البعض من أمتنا ممن ابتليت بهم هذه الأمة، فصاروا وبالاً عليها. ومن أروع مَنْ عبَّر عن مواقف هؤلاء ووضعهم المزري الدكتور الشاعر الكبير غازي القصيبي، كتب الله الشفاء العاجل له، وأعاده إلى وطنه مرتدياً ثوب الصحة والعافية. كان تعبيره كما يأتي:
|
قد عجزنا حتى شكا العجز منا |
وبكينا حتى ازدرانا البكاء |
وركعنا حتى اشمأز ركوع |
ورجونا حتى استغاث الرجاء |
وشكونا إلى طواغيت بيت |
أبيض ملء قلبه ظلماء |
أيها القوم نحن متنا ولكن |
أَنِفت أن تضمَّنا الغبراء |
وكان من روائع تعبيره: |
قد علمنا تهوُّد البعض منا |
أو لم يبق معشر ما تهوَّد |
|