بدَّد الكاتب (جوناثان ليونز) من خلال كتابه (بيت الحكمة) كثيراً من العتمة التي يحاول كثير من المستشرقين وبعض مثقفي العرب استغلالها لطمس تلك الإسهامات العربية الثرية في العلوم الإنسانية، يقول الكاتب: (عُد بالزمن للوراء وسترى أن من المستحيل تصوُّر الحضارة الغربية من دون ثمار العلم العربي: فن الجبر للخوارزمي، أو التعاليم الطبية والفلسفية الشاملة لابن سينا، أو علم الجغرافيا، وفن رسم الخرائط للإدريسي، أو العقلانية الصارمة لابن رشد، وعلوم الاجتماع لابن خلدون، فالعلم كان أحد أسلحة العرب في المهمة التاريخية للإنسان في تسخير الطبيعة).
عندما استخدم المؤلف مصطلح العلم العربي لم يكن يحاول إخفاء الدور العظيم للدين الإسلامي في تبديد الظلام الذي كان يغشى على العقل الإنساني في تلك الأزمنة، فقد خصص فصلاً عن العقل والإيمان في الإسلام، وكيف نجح علماء المسلمين في التوفيق بين العلم والحكمة، وأشار إلى أن الإبداع العربي لم يكن محصوراً في العرب والمسلمين، بل في استقطاب العقول من مختلف الأديان والأعراق من الفرس واليهود والنصارى العرب والسريان والترك والكرد، كل أولئك لعبوا أدواراً في إثراء العلم العربي، وذلك من خلال منحهم حرية العمل في مجالات العلم الواسعة، وبرر استخدامه مصطلح العلم العربي لأن لغة العلم في ذلك العصر كانت اللغة العربية، فقد كانت حسب وجهة نظره تملك سمات لغة العلم.
لهذا السبب كان منهج أسلمة العلوم خاطئاً، فالإرث الإنساني في العلم لا يمكن أن يخضع لمناهج رجال الدين، وأن يتم حصاره تحت مظلة تفسيرات الفقهاء، فما حدث لاحقاً من قبل بعض علماء الدين كان أحد أهم أسباب سقوط العلم العربي ثم دخول العرب إلى عصور الظلام، ولم تنجح أي حضارة في التاريخ عملت على تقزيم العلم من خلال إخضاعه لتفسيرات رجال الدين، لذلك لم يخرج الأوروبيون من عصور التخلف إلا بعد أن استفادوا من تجربة العرب، فقد كان الفهم المعرفي للقرآن في صدر الإسلام ضد سيطرة الكهنوت، وقد حرر ذلك الفهم الفطري الغرب من سلطة الكنيسة ومن تفسيراتها للظواهر الطبيعية، ليبدأ التحول التاريخي لمسيرة العلم من بغداد ودمشق وقرطبة إلى أوروبا.
قتلت الانتقائية السلبية في وصف أحوال العرب، التي يتبناها بعض المثقفين العرب، كثيراً من العزة والأنفة عند الأجيال العربية في العصر الحديث، فتجدهم على سبيل المثال يقتطعون بعض الجمل من سياقها عندما يرددون مقولة ابن خلدون: إن العرب في الأصل أمة متوحشة همهم نهب ما عند الناس، بينما يتجاهلون وصف ابن خلدون للعرب بأنهم أمة لا يمكن يبقوا ساكنين فغاية الأحوال عندهم الرحلة والتغلب، فكانت النتيجة انتقالا مذهلاً للعلوم والفنون والصنائع والنباتات عبر رقعة واسعة من العالم، وكان خير مثال لذلك العصر الذهبي في الأندلس، وفي ذلك رد بليغ على بعض المثقفين العرب ويأتي في مقدمتهم بعض السعوديين الذي كانت خلفيتهم سلفية لكن تحولهم الفكري المتطرف كانت نتيجته موقفاً سلبياً ضد حضارة العرب العلمية، فقد دأبوا على ترديد أن الحضارة كانت منذ الأزل مصدرها غربي، وتلك نظرة فيه نكران وجلد للذات ومنافاة للحقيقة.
تم الترويج كثيراً لمقولة عبد الله القصيمي (العرب ظاهرة صوتيه)، التي كان عنواناً لكتاب مليء بالأخطاء النحوية والإملائية، هاجم فيه شخصية المتنبي، وتم استخدامها لقتل الهوية العربية في عقول النشء الجديد، والعبارة تختزل التاريخ العربي في هزيمة وتخلف العرب في العصر الحديث، وتتجاوز عصورهم الذهبية في القرون الوسطى، بينما غاب عنهم أن تلك الانهزامية والتخلف كان أيضاً أحد أسبابها انتقال الحكم السياسي إلى الترك، الذين حكموا العالم الإسلامي والعرب من خلال نظرة عنصرية تحد من نفوذ العرب ومن استعمال اللغة العربية، وعندما غابت اللغة العربية عن العلم، غاب العقل في بلاد المسلمين، واندثرت مؤلفات العلوم الطبيعية، وانحصر تأليف الكتب في أمور الشريعة والدين.
لن يصح منهج للإصلاح في العالم العربي ليس من ضمن مبادئه إحياء الذات والعزة العربية غير المؤدلجة بالعنصرية أو المسيسة بالمصالح السياسية، إذ يجب أولاً ترسيخ حقيقة علاقة الأجيال الجديدة بإرث أجدادهم العلمي وأدوارهم العظيمة في يقظة العقل وإحياء العلوم الطبيعية، وسيتحقق ذلك من خلال مشروع ثقافي يقوم على احترام المنجز الغربي وعلى مهمة نقل العلوم الحديثة، لكن بدون خضوع أو انهزامية ثقافية أمام التفوق الغربي في العصر الحديث.