(الواسطة) من حيث المبدأ، ظاهرة إنسانية معقدة التركيب والتطبيق، لا يكاد يخلو منها مجتمع من المجتمعات، لا في شرق الكون ولا في غربه، تتباين في معظم الحالات وسيلة، وقد تتفق غاية، لكنها تزداد كثافة في المجتمعات التي تشكو خللاً في بنيتها القانونية والإدارية والإجرائية يقوم على عدة محاور، منها:
غياب أو ضعف ضوابط وآليات التنفيذ لخدمة مصالح الناس، فتكون (الواسطة) أحياناً (البديل) لمن لا حول له ولا حيلة!
وجود شيء من التناقض أو التداخل أو الغموض في بعض هذه الضوابط، فيلتمس صاحب المصلحة (الواسطة) باباً خلفياً (يتسلل) من خلاله إلى ما يريد!
وقد تكون هناك أنظمة ولوائح لا عوج فيها ولا عيب، ورغم ذلك، يلتمس أحد الناس أحياناً (الواسطة) سبيلاً للالتفاف عليها وصولاً إلى ما يريد، إما لأنه يفتقر إلى الشروط المسوغة لبلوغ غايته، وإما لضعف صبره وإصراره على اختصار الجهد والوقت.
تلك قراءة (سوسيوليجية) متواضعة للواسطة التي يسهر الخلق جرّاها ويختصمون حيثما كانوا.. وتكرار الحديث عنها أمر ما منه بدّ، وإليكم الدليل:
فالواسطة تصحو معنا وتنام. ترافقنا في غدونا ورواحنا.. وفي ضَعْنِنا وإقامتنا.. تحاصرنا في مكاتبنا.. ومجالسنا.. بل وتلاحقنا إلى عقر منازلنا.
وهي متعددة الأسباب والغايات، من (التماس) شغل وظيفة ترقية أو تعييناً، إلى مقعد في جامعة أو في طائرة، إلى طلب علاج.. أو الحجز لدى طبيب ما ونحو ذلك! حتى (دفن الميت) قد لا ينجو من حمى (الواسطة)، حين يؤثر (المرحوم) أو نفر من آلة مقبرة ما دون أخرى، ولا يجدون جميعا سوى (الواسطة) ملاذاً.
وللمتعاملين مع (الواسطة) من أهل القرار مذاهب ووسائل وغايات.
فمنهم من يتعامل معها وهو لها كاره، خشية أن تغشاه تهمة البخل بجاهه، إن كان ذا جاه!
ومنهم من يرفضها رفض من يؤنس منها بأساً.. خشية أن يضير زيداً أو يضر عمرا من الناس، عملاً بحكمة شعبية مطلعها: (الباب الذي..)!
ومنهم من يخضع حكمه (للواسطة) أو عليها بالغاية المرادة منها، فيميز بين واسطة ترفع ظلماً وأخرى تدفع إليه.. بين واسطة غايتها نفع محتاج لا يتعداه إلى آخر ظلماً.. وأخرى لا تأتي في كل الأحوال إلا ظلماً!
وبعد..،
فكيف نتعامل مع (الواسطة)؟
أرى أن المرء السوي يجب ألا يفرط (بتسكين الفاء) ولا يفرط (بفتحها مع تشديد الراء) في تعامله مع (الواسطة)، قبولاً أو رفضاً!
فلكل موقف حيثيات وتقديرات ومسوغات.. وعليه في مثل هذا الحال أن يسلك من السبل خيارها، محتكماً إلى عقله وضميره وفهمه، ثم تقديره لحيثيات الموقف.. فيقوم كل حالة على حده.. فما أطمأن إليه قلبه من الدروب سلكه.. وما خشي منه ظلماً أو أذى اجتنبه!
مسك الختام لهذه (الفذلكة) السريعة هو أن (الواسطة) خير لا مفر منه.. إن كانت تؤتي خيراً، وهي إثم إن كان مآلها إثماً! والفرق بين المقفين أمر يدركه كل ذي لب حليم.!