عندما هممت بدخول جامع الملك خالد بأم الحمام في الرياض قادماً من محافظة حريملاء لأداء صلاة الميت على أحد الراحلين بعد صلاة عصر يوم السبت الموافق 5-8-1431هـ إذ وقع نظري على عدد من المعزين في ناحية من أرجاء المسجد، فقربت منهم فإذا برجل يحتضن صبياً لم يتجاوز عمره العاشرة خشية سقوطه على الأرض من شدة وقع مصيبته، وهو مجهش بالبكاء المر على فقد أحب الناس إليه والده الذي عجلت عليه يد المنون وهو ما زال في مقتبل العمر وريعان الشباب، وكل واحد من أولئك يقبله ويمسح على رأسه مواسياً له، ومحاولاً التهدئة من روعه وإطفاء سورة الحزن التي يشتعل أوارها بين أضلاعه وفي أرجاء نفسه من هول مصيبته؛ فهو منظر مؤثر جداً ذرفت منه أعين الكثير من جماعة المسجد رأفة ورحمة بذلك الصبي الذي أمطرت جفونه خديه وجيب ثوبه بوابل من دموع حرّى - كان الله في عونه وجبر مصيبته - ويقال إنه وحيد والده من الذكور، وله شقيقة صغرى، ولقد أجاد الشيخ الأستاذ - عبدالله بن خميس حيث قال في موقف مثل هذا:
|
حناناً لكم فيما طويتم جوانحاً |
عليه وعطفي يا (وحيد) ورحمتي..! |
ويعلم الله أني قد تأثرت كثيراً وكفكفت عبرة مستكنة في خاطري وبين جوانحي متصوراً حاله، وما بداخله من براكين لوعات الفراق، ومن ثم وقوفه على حافات قبر والده قبل أن يهال التراب عليه، وهو يتابع ذاك المشهد بنظرات ملؤها الحزن والأسى، فيلحظ رصف لبنات اللحد التي سرعان ما أخفت جثمانه عن ناظريه إلى المدى الأقصى، ولسان حاله في تلك اللحظات الحرجة الحاسمة الموجعة لقلبه يردد قول الشاعر الأديب الأستاذ - محمد بن سليمان الشبل الذي كثيراً ما أستشهد به في بعض المواقف المؤثرة في نفسي:
|
يوم الوداع وهل أبقيت في خلدي |
إلا الأسى في حنايا القلب يستعر |
فما أقسى لحظات الوداع وأمرّها على النفوس البشرية بصفة عامة، ولا سيما الوداع النهائي، وهذا حال الدنيا مع ساكنيها إلى اليوم الموعود وقيام الساعة، ونهوض جميع الخلائق من أجداثهم سراعاً ليوم الحساب ونصب الموازين القسط ليجازى كل بما كسب.. فريق في الجنة وفريق في السعير، فالأجمل بالمسلم عندما يفقد حبيباً له أو صديقاً حميماً أن يسترجع ويترحم عليه، ويصبر ويحتسب الأجر من الله قال الله في محكم كتابه العزيز: (الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون)
|
وما من شك أن الطفل السوي عندما يصاب بشيء من مصائب الدنيا كفقد والديه أو أحدهما، أو أية إساءة إليه من أحد فإنه لا يقوى على تحمل ذلك، فسلاحه البكاء وإسبال العبرات تعبيراً عما يجيش بخاطره، ويفوح بقلبه، وليس له حيلة في الغالب أن يدافع عن نفسه ما حل بها، فالواجب الإنساني نحو الأطفال، والضعفة حسن معاملتهم والرفق بهم، وإدخال السرور عليهم، وتحقيق مطالبهم - إن أمكن - ولا سيما الأيتام الذين فقدوا آباءهم أو أحدهما..، كما أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- باليتيم في قوله (أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين)، فإن الأجر مضاعف لمن يرعاهم ويجبر خواطرهم، ويراقب سلوكهم في صغرهم، ويساويهم بأبنائه إن كانوا جيرانا لهم..، قال الله سبحانه وتعالى» إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا..» الآية. سورة الكهف.
|
ولك أيها القارئ الكريم أن تتصور حال ذاك الصبي اليتيم الذي ودع جثمان والده بنظراته عندما يعود إلى البيت وقد خلا من صاحبه، ولم يبق سوى والدته المفجوعة بإلفها وشريك حياتها، وشقيقته الصغيرة الذين سيكابدون لوعات الفراق الأبدي متذكرين شخص أبيهم في كل زاوية من جوانب البيت الذي أظلم بعد رحيل راعيه مضمرين هذا البيت:
|
يعز علي حين أدير عيني |
أفتش في مكانك لا أراك |
فهذه الكلمة الوجيزة وليدة تأثري الشديد في ذلك المشهد المحزن الذي جرت فيه أقدار الله برحيل والد ذاك الصبي، فالله سبحانه خلف عن كل فائت - تغمد الله الفقيد بواسع رحمته، وألهم ذويه وذريته وزوجته أم خالد الصبر والسلوان.
|
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إليه رَاجِعونَ}
|
المقصود في هذه الكلمة الصبي خالد بن وليد الهويشل. |
|