قال الفلسطينيون إنهم لن يذهبوا إلى (المفاوضات المباشرة) مع الإسرائيليين التي توقفت في ديسمبر 2008م بسبب العدوان على غزة، إلا بعد تقدم حقيقي في المفاوضات (غير المباشرة) التي انطلقت في مايو الماضي من العام الحالي..
.. بالنسبة لملفي (الأمن والحدود) بحكم ارتباطهما بالاستيطان وجغرافية القدس وفتح المعابر وحق العودة والأسرى وغيرها، وكذلك قال المصريون دعماً لموقف الفلسطينيين، ومن خلفهم الجامعة العربية التي أكدت أكثر من مرة أنه في حال لم يحدث تغير حقيقي من قبل إسرائيل على مسار قضية السلام، فإنها ستنقل ملف هذه القضية بالكامل إلى مجلس الأمن، وأن مهلة ذلك تنتهي في سبتمبر المقبل بناءً على قرار لجنة مبادرة السلام العربية، التي أيدت المفاوضات غير المباشرة شريطة أن تكون ضمن هذه المهلة، وأن لا تنتقل تلقائياً لمفاوضات مباشرة. لكن هذا التماسك في الموقفين الفلسطيني والعربي تجاه الصلف الإسرائيلي والانحياز الأميركي والصمت الأوروبي لم يدم طويلاً، فقد نجحت الإدارة الأميركية (الوسيط التفاوضي) في حرف بوصلة الأحداث بطريقة ذكية تفتقر نزاهة الوساطة وعدالة الموقف، لهدف إخراج إسرائيل من مأزقها الحالي على المستوى العالمي، خاصةً بعد جريمة أسطول الحرية وردود الأفعال الدولية حيالها.
فأية قراءة لمشهد الأحداث المتسارعة على كل مضامير القضية الفلسطينية في الفترة السابقة يلحظ حقيقة المأزق الإسرائيلي، فمنذ خطاب الرئيس باراك أوباما الشهير في جامعة القاهرة بشهر يونيو 2009م بدت ملامح السياسة الجديدة للإدارة الأميركية بشأن إسرائيل وقضية التسوية السلمية، وفق أربعة محاور رئيسة، الأول ضمان أمن إسرائيل وعدم وجود ما يهدد كيانها، والثاني إعادة الاعتبار السياسي القيادي للسلطة الفلسطينية، التي فقدت كثيراً من قوتها بسبب وقوعها بين سندان غطرسة إسرائيل ومطرقة المقاومة، كي تبقى ممثلاً للفلسطينيين وتواصل مفاوضات السلام، والثالث إصلاح ما أفسدته الإدارة الأميركية السابقة من علاقات ومصالح مع العالم الإسلامي وبالذات الوطن العربي، أما الرابع فهو محاولة تحقيق إنجاز ملموس في الشرق الأوسط لقطع الطريق على التحالف الإقليمية التي تنسجها إيران وتركيا.
والأميركيون الذين يُدركون حجم المأزق الإسرائيلي هم يُدركون تماماً أنه نابع من (ازدواجية) السياسة الإسرائيلية خلال السنوات الماضية، (نظرياً) بين مزاعمها في السلام مع الفلسطينيين والعرب، و(عملياً) في مواقفها المتصلبة والتطبيقية على الأرض، فهي تريد السلام ولكن لن تتنازل عن القدس أو توقف الاستيطان فضلاً عن إزالته، وهي تتحدث عن حقوق الإنسان ولكن ترفض حق عودة اللاجئين وتمارس القتل وتستمر بالاعتقالات ومعاناة الأسرى، وهي تؤيد دولة فلسطينية ولكن لن تقبل لها أية سيادة أو جيش أو حدود، وغيرها من صور الازدواجية، لذلك فأفضل الطرق لدى الإدارة الأميركية هي العودة إلى طريق المفاوضات (التسويفية)، التي تمنح إسرائيل الوقت لفرض الأمر الواقع بدلالة تهويد القدس المتواصل، وبنفس الوقت تُغري الفلسطينيين والعرب بأوهام السلام تحت أكاذيب الضمانات الدولية، التي لم تردّ حقاً، أو ترفع حصاراً، أو توقف حرباً، أو تعاقب إرهاباً، خصوصاً أن إسرائيل دمرت عملية السلام بحروبها العسكرية وأعمالها الإرهابية.
ولعل متابعة سيناريو المفاوضات التي ترعاها الولايات المتحدة في الفترة الأخيرة تكشف أنها تحاول بالفعل تخليص إسرائيل من ذلك المأزق، فالولايات أيدت في البداية إجراء مفاوضات (غير مباشرة) بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي بناءً على موافقة الجانب الإسرائيلي، وقبول الجانب الفلسطيني الذي ربط انتقاله إلى مفاوضات (مباشرة) لاحقاً في حال حدث تقدم حقيقي للمفاوضات غير المباشرة. وبالفعل جرت هذه المفاوضات ُتحيطها زيارات ومقابلات المبعوث الأميركي جورج ميتشل مع الجانبين والاستعانة بمصر، ثم تطور الموقف بإعلان الإدارة الأميركية إمكانية الانتقال لمرحلة المفاوضات (المباشرة) بناءً على رغبة الجانب الإسرائيلي، بل ودفعت بهذا الاتجاه تحت مزاعم أنه تم إنجاز خلال المفاوضات غير المباشرة دون الكشف عن طبيعته، ومع أن الجانب المصري يؤكد أن هذه المفاوضات لم تحقق الهدف منها، إلا أنه يرى الحاجة لمفاوضات مباشرة لأنها هي الطريق للتوصل لتسوية نهائية.
فما طبيعة الإنجاز الذي يتحدث عنه الأميركيون وذكره المبعوث ميتشل في تقريره الذي قدمه للرئيس أوباما؟، قطعاً ليس حقيقاً أو واقعياً وبالذات ملفي الأمن والحدود، فالفلسطينيون يؤكدون أنه لم يتم ترسيم الحدود أو إزالة مستوطنات الضفة الغربية أو تقرير مصير القدس وما إلى ذلك، لذا لازالوا ممتنعين عن الانتقال للمفاوضات المباشرة، إلا بضمانات تركز على (تحديد نهاية زمنية للمفاوضات، ووقف الاستيطان، وأن حدود الدولة الفلسطينية تقوم على حدود عام 67م)، مع ذلك تدفع الإدارة الأميركية بكل قوة نحو هذه المفاوضات.. لماذا؟، لأن أجواء المفاوضات مهما كانت وضعيتها تعطي انطباعاً عالمياً أن إسرائيل تريد السلام، وكونها تُدرك عدم إيفاء إسرائيل بتلك الضمانات، خاصة في ظل مواصلتها هدم المنازل وبناء المستوطنات وعدم الاعتراف بأية حدود وممارسة العمليات الأمنية وفق مصالحها، والواقع الفلسطيني يبرهن على ذلك بشواهد تتم بشكل يومي، ففي الوقت الذي تدعو فيه الإدارة الأميركية للمفاوضات المباشرة!! قامت إسرائيل بهدم 65 منزلاً في شمال الأغوار، كما أعلنت عن بناء (100) وحدة سكنية لحي استيطاني جديد في القدس الشرقية. أخلص إلى أن ما يقوله الأميركيون اليوم عن وعود السلام والدولة الفلسطينية المنشودة قد قيل أيام إدارة جورج بوش، الذي وعد عام 2001م بدولة فلسطينية في العام 2005م، ثم كرر الوعد للعام 2008م، فذهب الوعد مع أوراق الانتخابات الأميركية.. إنها (لعبة المفاوضات).
Kanaan999@hotmail.com